جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٨
٩٣
لو دخلت " الفاء " هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد : لا تجمع النَّهْيَ والإتيان وتقول :" لا تأكل السِّمَكَ وتشرب اللبن " لو أدخلت الفاء هنا لفسد المعنى.
قال أبو حيَّان : ويوضِّح لك أنها ليست بجواب أنْفِرَادُ " الفاء " دونها، فإنها إذا حذفت انْجَرمَ الفعل بعدها بما قبلها لما تَضَمَّنَهُ من معنى الشَّرْطِ إلاَّ في النفي، فإن ذلك لا يجوز.
قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزَّجَّاج، قال أبو إسحاق : نصب على الجواب بالواو في التَّمَنِّي كما تقول :" ليتك تَصِيرُ إليْنَا ونُكْرِمَكَ ".
المعنى : ليت مصيرك يقع وإكرامنا، ويكون المعنى :" ليت رَدَّنا وقع وأن لا نكذِّب ".
وأمَّا كون " الواو " ليست بمعنى " الفاء " فَصَحِيحٌ، على ذلك جُمْهُورُ النحاة، إلاَّ أنِّي رأيتُ أبا بكر بن الأنْبَارِيّ خَرَّجَ النَّصْبَ على وجهين : أحدهما : أنَّ " الواو " بمعنى " الفاء "، والتقدير : يا يلتنا نُردُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ، فتكون " الواو " هنا يمنزلة " الفاء " في قوله :﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر : ٥٨].
يؤكد هذا قراءةُ ابن مسعود، وابن أبي اسحاق " يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذبَ " بالفاء [منصوباً].
والوجه الآخر : النَّصْبُ على الصرف، ومعناه الحال، أي : يا ليتنا نُردُّ غي مكذِّبين.
أمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأوَّل ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم ؛ لأن الأول يرتفع على حَدِّ ما تقدم من التأويلات، وكذلك نصب الثاني يتخرج على ما تقدم ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التَّمَنِّي أو إسْتَأنَفَهُ، إلاَّ أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تَمَام قوله :" نُرَدُّ " أي : تَمنَّوا الرَّدَّ مع كونهم من المؤمنين، وهذا ظَاهِرٌ إذا جعلنا :" ولا نكذب " مَعْطُوفاً على " نُرَدّ " أو حالاً منه.
وأمَّا إذا جعلنا " ولا نكِّب " مستأنفاً، فيجوز ذلك أيضاً، ولكن على سبيل الاعتراضِ، ويحتمل أن يكون من تمامِ " ولا نكذٍّب " أي : لا يكونُ منّا تكذيب مع كوننا
٩٤
من المؤمنين في التمني، أو أستأنفه ويكون قوله :" ولا نكذب " حينئذٍ على حَالِهِ، أعني من احتماله العَطْفَ على " نُرَدُّ " أو الحاليّة، أو الاستئناف، ولا يخفى حينئذٍ دخول كونهم مع المؤمنين في التَّمَنِّي وخروجه منه بما تقدَّم تقريره.
وقُرئ شاذّاً عكس قراءة ابن عامرٍ، بِنَصْبِ " نكذبَ "، ورفع " نكون "، وتخريجها على ما تقدَّمَ إلاّ أنها يضعف فيها جَعْلُ " ونكونُ من المؤمنين " حالاً لكونه مُضَارعاً مثبتاً إلا بتأويل بَعيِيدٍ، كقوله :[المتقارب] ٢١٤١ -..................
نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٨
أي : وأنا أرْهَنُهُمْ، وقولهم :" قمت وأصكُّ عَيْنَهُ "، ويدلُّ على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أبيِّ :" ونحن نكونُ من المؤمنين ".
فصل في تحرير معنى الرد معنى الآية الكريمة : أنهم تَمَنَّوا الرَّدَّ إلى حالة التكليف، لأن لَفْظَ " الرَّدَّ " إذا استعمل في المُسْتَقْبَلِ في حالٍ إلى حالٍ، فالمعهود منه الرَّدُّ إلى الحالة الأولى، فإن الظَّاهِرَ مَنْ صدر عنه تَقْصِيرٌن ثمَّ عاين الشَّدائد والأهْوَال من ذلك التقصير أنه يتمنى الرَّدَّ إلى الحالة الأولى ؛ ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصِيرَاتِ، وذلك التدارك لا يحصل بالعَوْدِ إلى الدنيا فقط ولا بترك التكذيب فقط، ولا بعمل الإيمان، بل إنَّما يَحْصُلُ التدارُكُ بمجموع هذه الأمور الثلاثة، فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني.
فإن قيل : كيف يحسنُ تمني الرد مع أنهم يعلمون أنَّ الر‍َّدَّ لا يحصل ألْبَتَّةَ ؟ والجوابُ من وجهين : أحدهما : لعلهم [لم] يعلموا أن الردَّ لا يحصل [ألبتة] ؟ والثاني : أنهم وإن علموا أن ذّلِكَ لا يَحْصُلُ إلاَّ أن هذا العلم لا يمنع من حصول إراة الرَّدِّ، كقوله تبارك وتعالى :﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾ [المائدة : ٣٧] وقوله تعالى :﴿أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ [الأعراف : ٥٠] فلمّا صَحَّ أن يريدوا هذه الأشياء مع العِلْمِ بأنها لا تحصل، فبأن يتمنونه أقْرَبُن لأن باب التمني أوْسَعُ.
٩٥
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٨٨


الصفحة التالية
Icon