وقيل : الأصل في ذلك الوَزَرُ بفتح الواو والزاي، وهو المَلْجأ الذي يُلْتَجَأُ إليه من الجَبَلَ، قال تعالى :﴿كَلاَّ لاَ وَزَر﴾ [القيامة : ١١] ثمَّ قيل للثقل : وَزْرٌ تَشْبيهاً بالجَبَلِ، ثم اسْتُعِيرَ الوِزْرُ إلى الذَّنْبِ تشْبيهاً به في مُلاقَاةِ المَشَقَّةِ، والحاصلُ أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزَانَةِ والعَظَمَةِ.
قوله :﴿ألا سَاءَ ما يزِرُونَ﴾ " ساء " هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة : أحدهما : أنها " ساء " المُتَصَرِّفَةُ المتعدِّيَةُ، ووزنها حينئذٍ " فَعَل " بفتح العين، ومفعولها حينئذٍ محذوفٌ، وفاعلها " ما ".
و " ما " تحتمل ثلاثة أوجه : أن تكون موصولةً اسميةً، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، وهو بعيد، [وعلى جعلها اسمية أو نكرة موصوفة تقدّر] لها عائداً، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور.
والتقدير : ألا سَاءهُمُ الذي يَزِرُونَهُ، أو شيء يزرونه، أو وزْرُهُمْ [وبدأ ابن عطية بهذا الوجه ؛ قال : كما تقول : ساءني هذا الأمر، والكلام خبر مجرد كقوله :[البسيط] ٢١٤٦ - رَضيتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غَيْرَ طَائِلَةٍ
فَسَاءَ هَذَا رِضّى يا قَيْسَ عَبْلانَا
قال أبو حيان : ولا يتعين أن تكون " ما " في البيت خبراً مجرداً، بل تحتمل الأوجه الثلاثة] وهو ظاهر.
الثاني : أن يكون للتعجُّب، فتنتقل من " فَعَل " بفتح العين [إلى] " فعُل " بضمها، فتعطى حكم فعل التَّعَجُّب من عدم التصرف، والخروج من الخبر المَحْضِ إلى الإنشاء إن قلنا : إن التعجُّب إنشاء، وهو الصحيح، والمعنى : ما أسْوَأ، أي : أقبح الذي يزرونه، أو شيئاً يزرونه، أو وِزْرُهم.
الثالث : أنها بمعنى " بئس " فتكون للمُبَالَغَةِ في الذَّمِّ فتعطى أحكامها أيضاً، ويجري الخِلافُ في " ما " الواقعِة بعدها حَسْبَما ذكر في ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ﴾ [البقرة : ٩٠] وقد ظهر الفَرقُ بين الأوجه الثلاثة، فإنها في الأوَّل متعدّية متصرّفة، والكلام معها خَبَرٌ مَحْضٌ، وفي الأخيرين قَاصِرَةٌ جامدة إنشائية.
والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْتَرَطُ في فاعلها ما يشترط في فاعل " بئس ".
١٠٤
وقال أبو حيَّان : والفَرْقُ بين هذا الوجه يعني كونها بمعنى " بئس "، والوجه الذي قبله - يعني كونها تعجبيَّةً - أنه لا يُشْتَرَطُ فيه ما يشترط في فاعل " بئس " من الأحكام، ولا هو جملةٌ منعدةٌ من مبتدأ وخبر، [إنما هو منعقد من فعل أو فاعل انتهى، وظاهره لا يظهر إلاَّ بتأويل، وهو أن الذم لا بد فيه مَن مَخْصوص بالذَّمِّ، وهو مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقده من هذه الجملة مبتدأ وخبر].
إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول : إنما يَتَأتَّى هذا على أحَدِ الأعَارِيبِ في [المخصوص] وعلى تقدير التَّسْليم، فلا مَدْخَلَ للمخصوص بالذَّمِّ في جملة الذَّمِّ بالنسبة إلى كونها فَعْلِيَّة، فحينئذٍ لا يظهر فَرْقٌ بينها وبين التَّعجبية في أنَّ كُلاَّ منهما منعقدةٌ من فَعلٍ وفاعل.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : بئْسَ الحمْلُ حَمَلُوا ".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٠١
قوله عز وجل :﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِب﴾ يجوز أن يكون من المُبَالَغَةِ جَعْلُ الحَيَاةِ نَفْسَ اللَّعِبِ واللَّهوِ كقول [القائل] :[البسيط] ٢١٤٧ -....................
فَإنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ
وهذا أحسن، ويجوز أن يكون في الكلام حَذْفٌ، أي : وما أعمال ﴿وما أهْلُ الحياة الدنيا إلاَّ أهل لَعِب﴾ فقدَّر شيئين محذوفين.
واللَّهْوُ : صَرْفُ النَّفْسِ عن الجِدِّ إلى الهَزَلِ، ومنه لَهَا يَلْهُو.
وأمَّا لَهِيَ عن كذا فمعناه صَرَفَ نَفْسَهُ، والمَادَّةُ واحد انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، نحو : شَقِيَ ورَضِيَ.
وقال المهدوي :" الذي معناه الصَّرْفُ لامُه ياء، بدليل قولهم :" لَهْيَان "، ولام الأول واو ".
قال أبو حيَّان :" وليس بشيء ؛ لأن " الواو " في التثنية انْقَلَبَتْ ياءً، فيس أصلها الياء ألا ترى تثنية " شَجِ " :" شجيان " وهو من الشَّجْوِ " انتهى.
يعني : أنهم يقولون في اسم فاعله :" لهٍ " كـ " شَجٍ " والتثنيةُ مَبْنيَّةٌ على المفرد، وقد انقلبت في المُفْرَدِ فلتنقلب في المثنى.
١٠٥


الصفحة التالية
Icon