و " الصَّدَفُ " و " الصُّدُف " بفتح الصاد والداله ناحية الجَبَلِ المُرْتفعِ، وسأتي لهذا مزيدُ بيان.
فصل في دفع شبهة للمعتزلة قال الكعبي : دلَّت هذه الآية على أن اللَّه - تعالى - مَكَّنَهُمْ من الفَهْمِ، ولم يخلق فيهم الإعْرَاضَ والصَّدَّ، ولو كان تعالى هو الخَالِق للفكر فيهم لم يكن لهذا الكلامِ مَعْنَى.
واحْتَجَّ أهل السُّنَّةِ بعين هذه الآيَةِ قالوا : إنه - تعالى - بيَّن أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها، وإزالة الشبهات عنها، ثم إنهم مع هذه المُبَالَغةِ القَاطِعَةِ للعُذْرِ ما زادوا إلاَّ تَمَادِياً في الكُفْرِ والعنادِ، وذلكَ يَدُلُّ على أن الهُدَى والإضْلالَ لا يحصلان إلاَّ بهذاية الله - تعالى - وإضْلالِهِ، فَدَلالَةُ الآية على قولنا أقوى من دَلالتهَا على قولهم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٥٢
اعلم أن الدلائلَ المتقدّمة كانت مختصة بأخذ السَّمْع والبَصَرِ والقلب، وهذا عامٌ في جميع أنواع العذابِ، والمعنى أنه لا دَافِعَ لنوع من أنواع العذابِ، ولا مُحَصِّلَ لخير من الخَيْرَاتِ إلاَّ اللَّهُ تعالى، فوجب أن يكون هو المَعْبُودَ دون غيره.
والمراد بـ " البَغْتَة " العذاب الذي يأتيهم فُجَاءةً من غير سَبْقِ علامةٍ، والمرادُ بـ " الجَهْرَة " العذاب الذي يأتيهم مع سَبْقِ علامة تَدُلُّ عليه.
وقال الحَسَنُ :" بَغْتَةً " أو " جَهْرَةً " : معناه : لَيْلاً أو نهاراً.
١٥٤
قال القاضي : والأوَّل أوْلَى ؛ لأنه لو جاءهم ذلك العذابُ ليْلاً وقد عاينوا قُدُمَهُ لم يكن بَغْتَةً، ولو جاءهم نَهَاراً وهم لا يَشْعُرون بقدومه لم يكن جَهْرَةً.
قوله :" هل يهلك " هذا اسْتِفْهَامٌ بمعنى النَّفْيِ ؛ ولذلك دخلت " إلاَّ " وهو استثناء مُفَرَّغٌ، والتقديرُ : ما يُهْلَكُ إلاَّ القَوْمُ الظالمون، وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لـ " أرأيتكم " والأوَّلُ مَحْذُوفٌ، وهو من التَّنَازع على رأي أبي حيَّان كما تقدَّم تَقْرِيرُهُ.
وقال أبو البقاء : الاسْتِفْهَامُ هنا بمعنى التَّقْرير، فلذلك نَابَ عن جواب الشَّرْط، أي : إن أتاكم هلكتم، والظَّاهِرُ ما تقدَّمن ويجيء هنا قول الحُوفِيّ المتقدَّم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً.
وقرأ ابن محيصن :" هل يَهْلَكُ " مَبْنيَّا للفاعل.
فإن قيل : إن العذابَ إذا نزل لم يَحْصُلْ فيه التَّمْييزُ بَيْنَ المُطيعِ والعاصي.
فالجوابُ أن العذاب وإن عَمَّ الأبْرَارَ والأشْرَار في الظاهرة، إلاَّ أن الهلاك في الحقيقة مُخْتَصٌّ بالظالمين ؛ لأن الأخْيَارَ يستوجبون [بسبب نزول تلك] المضارِّ بهم أنْوَاعاً عظيمة من الثواب والدَّرَجَاتِ الرفيعة عن الله.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٥٤
والمقصود من هذه الآية أن الأنبياء إنما بُعِثُوا مُبَشِّرين بالثواب على الطَّاعاتِ، ومُنْذِرينَ بالعِقَابِ على المَعَاصي، ولا قُدْرَةَ لهم على إظْهَارِ الآيات والمُعْجِزَاتِ، بل ذلك مُفَوَّضٌ إلى مَشِيئَةِ الله وحكمته.
قوله :﴿إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ حالٌ من " المرسلين "، وفي هذه الحال معنى الغَلَبة، أي : لم نرسلهم لأن نقترح عليهم الآيات، بل لأن يبشروا وينذروا.
وقرأ إبراهيم، ويحيى :" مُبْشِرين " بالتخفيف، وقَدْ تقدَّم أن " أبْشَرَ " لغة في " بَشَّر ".
قوله :" فَمَنْ آمَنَ " يجوز في " مَنْ " أن تكون شَرْطِيَّةً، وأن تكون مَوْصُولةً، وعلى كلا التقديرين فَمَحَلُّهَا رفع بالابتداء.
١٥٥
والخبر " فلا خَوْفَ " فإن كانت شَرْطِيَّة، فالفاء جواب الشَرْط، وإن كانت مَوْصُولةً فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون مَحَلُّ الجملتين الجَزْمَ، ولعى الثاني لا مَحَلِّ للأولى وممحل الثانية الرفع، وحمل على اللفظ فأفرد في " آمن " و " أصْلَحَ "، وعلى المعنى فجمع في ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون﴾، ويُقَوِّي كونها موصولة مقابلتها بالموصول بعدها في قوله :﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ﴾.
وقرأ علقمةك " نُمسُّهم " : بنون مضمومة من " أمَسَّه كذا " " العذابَ " نَصْباً، والمَسُّ في اللغة التِقَاءُ الشيئين من غير فصل.
وقرأ الأعْمَش، ويحيى بن وثاب " يَفْسِقُون " بكسر السّين، وقد تقدَّم أنها لُغَةٌ، و " ما " مصدريَّةٌ على الأظهر، أي بِفِسْقِهِمْ.
فصل في رد شبه للقاضي قال القاضي : إنه - تعالى - عَلَّلَ عذابَ الكفَّار ؛ لأنهم فَاسِقينَ، فاقتضى أن يكون كل فاسق كذلك، فيقال له : هذا معارض بما أنه خص الذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله وهذا يدل على أنه من لم يكن مكذّباً بآيات الله ألاَّ يلحقه هذا الوعيد أصلاً، وأيضاً فإن كان هذا الوعيدُ معلّلاً بِفِسْقِهِمْ فلم قلتمك إن فِسْقَ من عرف الله، وأقَرَّ بالتوحيد والنبوة والمعاد مُسَاوٍ لِفِسْقِ من أنكر هذه الأشياء ؟
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٥٥