﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً﴾ [القصص : ٨]، ويكون قولهم " أهُؤلاء " إلى آخره صادراً على سبيل الاسْتِخْفَافِ.
قوله :" أهَؤلاءِ " يجوز فيه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب المَحَلِّ على الاشْتَغَالِ بفعلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الفعل الظاهر، العاملُ في ضميره بِوَساطَةِ " على "، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والتقدير : أفَضَّلَ الله هؤلاء مَنَّ عليهم، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم، ولا مَحَلِّ لقوله :" مَنَّ اللَّهُ عليهم " لكونها مُفَسّرة، وإنِّما رجَّح هنا إضمار الفعل ؛ لأنه وقع بد أداةِ يغلبُ إيلاءُ الفعلِ لها.
والثاني : أنه مرفوع المَح‍َلّ على أنه مبتدأ، والخبر : مَنَّ اللَّهُ عليهم، وهذا وإن كان سَالِماً من الإضْمَارِ الموجود في الوجه الذي قبله، إلاَّ أنه مَرْجوحٌ لما تقدَّم، و " عليهم " مُتعلِّقٌ بـ " مَنَّ ".
و " من بَيْنِنَا " يجوز أن يتعلَّق به أيضاً.
قال أبو البقاء :" أي مَيَّزَهُمْ عَلَيْنَا، ويجوز أن يكون حالاً ".
قال أبو البقاء أيضاً : مَنَّ عليهم منفردين، وهذان التفسيران تفسيرا مَعْنِى لا تفسيراً إعراب، إلاَّ أنه لم يَسُقْهُمَا إلاَّ تَفْسِيرَيْ إعراب.
والجملة من قول :" أهؤلاءِ مَنَّ اللِّهُ " الفرقُ بين الباءين أن الأولى لا تعلُّق لها لكونها زَائِدة في خبر " ليس "، والثانية متعلّقة بـ " أعلم " وتعدِّي العمل بها لِمَا ضُمِّن من معنى الإحاطَةِ، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء، فيقولون : علم بكذا والعلم بكذا لما تقدَّم.
فصل في تحرير معنى الفتنة في الآية معنى هذه الفِتْنَةِ أن كُلَّ واحد من الفريقين مُبْتَلًى بصاحبه، فرُؤسَاءُ الكُفَّارِ الأغنياء
١٧٠
كانوا يَحْسُدُونَ فُقْرَاءَ الصحابة على كونهم سابقين للإسلام مُسَارعينَ إلى قَبُولِهِ، فقالوا : ولو دخلنا في الإسلام لوجب عَلَيْنَا أن نَتْقَادَ لهؤلاء الفقراء المساكين، وأن نعترف لهم بالتَّبَعِيَّةِ، فكأن ذلك يَشُقُّ عليهم، ونظيره :﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا﴾ [ص : ٨]، ﴿لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف : ١١].
وأمَّا فُقراءُ الصحابة فكانوا يَرَوْنَ أولئك الكُفَّارَ في الرَّاحَاتِ والمَسَّراتِ والطَّيبات والخسب والسَّعَةِ، فكانوا يقولون : فكيف حَصَلَتْ هذه الأحوال لهؤلاء الكُفَّار مع أنَّا بَقِينَا في [هذه] الشدّة والضِّيقِ، فقال تعالى :﴿وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم﴾ فأحد الفريقين يرى الآخر مقدماً [عليه] في المناصبِ الدينية، ويقولون : أهذا الذي فَض‍َّلَهُ الله علينا ؟ وأمَّا المحققون فهم الذين يَعْلَمُونَ أن كُلَّ ما فعله الل‍َّهُ - تعالى - فهو حَقٌ وحكمةٌ وصوابٌ ولا اعتراض عليه، إمَّا بحكم الملكية كما هو قول أهل السًّنَّةِن وإمَّا بحسبِ المصلحة كما هو قول المعتزلة فكانوا صَابِرينَ في وقت البلاءِ، شاكرين في وقت الآلاءِ والنَّعْماءِ وهم الذين قال الله في حق‍ِّهم :﴿ألَيْسَ الل‍َهُ بأعْلَمَ بالشَّاكرينَ﴾.
فصل " روى أبُو سعيدٍ الخُدرِيُّ قال : جَلسَتُ في نَفَرٍ من ضُعَفَاءِ المهاجرين، وإن بعضهم لَيَسْتَتِرُ من بعضٍ من العُرْي، وقَارِئ يقرأُ عَلَيْنَا، إذ جاء رسوله الله ﷺ فَقَامَ عَلَيْنا فلما قامَ رسُول الله ﷺ سكت القَارِئُ، فَسَلَّم رسولُ الله ﷺ وقال : ما كُنتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قلنا يا رسول الله : كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله، فقال رسول الله ﷺ وقال : ما كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قلنا، يا رسول اله : كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله، فقال رسول الله ﷺ :" الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل مِنْ أمَّتِي مَنْ أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ "، قال : ثُمَّ جلس وَسَطَنَا ليعدل بنفسه فينا، ثم قال بيده هكذا فَتَحلَّقُوا، وبرزت وُجُوهُهُمْ لهُ قال : فما رأيت رسول الله ﷺ عَرفَ منهم أحداً غيري.
فقال رسول الله ﷺ :" أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ صَعَالِيك المُهاجِرينَ بالنُّور التَّام يَوْمَ القِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الجنَّةَ قَبْلَ الأغْنِيَاء بنِصْفِ يَوْمٍ، وذلِكَ مِقْدارُ خِمْسِمائَةِ سَنَةٍ ".
١٧١


الصفحة التالية
Icon