لمَا أُمر الرَّسولُ بالإنذار والتَّبليغ وأمر القَوْمُ بالقبُول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد.
وفي " كَمْ " وجهان : أحدهما : أنَّهَا في موضعِ رفع بالابتداء، والخبرُ الجُمْلَة بعدها، و " مِنْ قَرْيَةٍ " تمييزٌ، والضمير في " أهْلَكْنَاهَا " عائد على معنى " كَمْ "، وهي هنا خبرية للتَّكْثيرِ، والتَّقدير : وكثير من القرى أهْلَكْنَاهَا.
قال الزَّجَّاجُ : و " كَمْ " في موضع رَفْع بالابتداءِ أحسن من أن تكون في موضع نَصْبٍ ؛ لأن قولك :" زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ " أجود من قولك :" زَيْداً ضربتُهُ " بالنَّصْب، والنَّصْبُ جيِّدٌ عربيٌّ أيضاً لقوله تعالى :﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر : ٤٩]، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنه جعل " أهْلَكْنَاهَا " صفة لـ " قرية "، والخبر قوله :" فَجَاءَها بَأسُنَا " قال : وهو سَهْوٌ ؛ لأن " الفَاءَ " تمنع من ذلك.
قال شهابُ الدِّين : ولو ادَّعى مدَّعٍ زيادَتَها على مذهب الأخفش لم تُقبل دَعْوَاهُ ؛ لأن الأخفش إنَّمَا يَزِيدُهَا عند الاحتياج إلى زيادتها.
١٣
الثاني : أنَّهَا في موضع نَصْبٍ على الاشتغال بإضمار فعل يفسِّره ما بعده، ويقدَّرُ الفِعْلُ متأخَّراً عن " كم " ؛ لأن لها صدر الكلام، والتَّقديرُ : وكم من قريةٍ أهلكناها [أهلكناها]، وإنَّمَا كان لها صدر الكلام لوَجْهَيْنِ : أحدهما : مضارعتها لـ " كم " الاستفهامية.
والثاني : أنَّهَا نقيضة " رُبَّ " ح لأنها للتكثير و " رُبَّ " للتَّقْلِيلِ فحُمل النقيضُ على نَقِيضهِ كما يحملون النظير على نظيره، ولا بد من حَذْفِ مُضافٍ في الكلام لقوله تعالى :﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ فاضطرَرْنَا إلى تَقْدير محذوفٍ ؛ لأن البَأسَ لا يليق بالأهْلِ، ولقوله :﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ فعاد الضمير إلى أهل القرية، وأيضاً فلأن التَّحْذِيرَ لا يقع إلاَّ للمُكَلَّفينَ، وأيضاً والقِائِلَةُ لا تَلِيقُ إلاَّ بالأهْلِ.
ثم منهم مَنْ قدَّره قبل قرية أي : كم من أهْلِ قَريةٍ، ومنهم مَنْ قدَّرَهُ قبل " ها " في أهلكنَاهَا أي : أهْلَكْنَا أهلها، وهذا ليس بِشَيءٍ ؛ لأن التَّقاديرَ إنَّمَا تكُونُ لأجل الحَاجَةِ، والحاجةُ لا تَدْعُو إلى تَقْديرِ هذا المُضَافِ في هَذَيْنِ الموضِعَيْنِ المذكُوريْنِ ؛ لأن غهلاكَ القرْيَة يمكنُ أن يقعَ عليها نَفْسِهَا، فإن القُرى قد تُهْلَكُ بالخَسْفِ والهَدْمِ والحريقِ والغَرَقِ ونحوه، وإنما يحتاج إلى ذلك عند قوله :" فَجَاءَهَا " لأجل عَوْدِ الضَّمير من قوله :" هُمْ قَائِلُونَ " عليه، فيقدَّرُ : وكم من قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءَ أهلها بأسنا.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قلت : هل يقدَّرُ المُضَافُ الذي هو الأهل قبل القَرْيَةِ، أو قَبْلَ الضَّمير في " أهلكْنَاهَا ".
قلتُ : إنَّمَا يُقدَّرُ المُضَافُ للحاجَةِ، ولا حَاجَةَ فإن القريَةَ تَهْلَكُ، كما يَهْلَكُ أهلها وإنَّما قَدَّرْنَاهُ قبل الضمير في " فَجَاءَهَا " لقوله :﴿﴾ وَظَاهِر الآية : أنَّ مجيءَ البَأسِ بعد الإهلاكِ وعقيبة ؛ لأنَّ الفاءَ تعطي ذلك لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البَأسِ، وبعدَهُ يقعُ الإهلاك.
فمن النُّحَاةِ من قالك الفاء تأتي بمعنى " الوَاوِ " فلا ترتب، وجعل من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضَعِيفٌ، والجمهور أجَابُوا عن ذلك بوجهين : أحدهما : أنَّهُ على حذف الإرادة أي : أرَدْنَا إهلاكها كقوله :﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ [المائدة : ٦]، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ [النحل : ٩٨]، " إذَا دَخَل أحَدُكُمُ الخَلاء فَلْيُسَمِّ [اللَّهَ] "، وقيل : حكمنا بِهَلاكِهَا.
الثاني : أنَّ معنى " أهْلَكْنَاهَا " أي : خذلناهُم ولم نوفقهم فنشأ عن ذلك هَلاَكُهُم، فعبر بالمسَّبب عن سَبَبِهِ وهو بابٌ واسع.
وثَمَّ أجوبة ضعيفة ؛ منها : أنَّ الفاء هاهنا تفسيرية نحو :" تَوَضَّأ فغسل وجهه ثم يديه " فليست للتعقيب ومنها أنَّها للتَّرتيب في القَوْلِ فقط كما
١٤


الصفحة التالية
Icon