ولا في دنياه ؛ لأنَّ إبليس استمهل الزَّمَانَ الطويل فأمْهَلَهُ اللَّهُ، ثمَّ بيَّن أنَّهُ إنَّمَا يستمهله ؛ لأغواء الخلق، وإضلالهم.
والله - تعالى - عَالِمٌ بأنَّ أكثر الخلق يطيعونهُ، وقبلونَ وسْوَسَتَهُ كما قال تعالى :﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سبأ : ٢٠] فثبت أنَّ إنْظَارَ إبليس وإمْهَالَهُ هذه المدة الطويلة ؛ يَقْتَضِي حصور المفاسِدِ العظيمة.
٤٢
والكفر العظيم، فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العبادِ ؛ لامتنع أنْ يمهله، وأن يمكنه من هذه المفاسد، فَحَيْثُ أنْظَرَهُ وأمهله ؛ علمنا أنَّهُ لا يجب عليه شيء من رِعَايَةِ المصالح أصْلاً، ومما يوِّي ذلك أنَّهُ تعالى بَعَثَ الأنبياءَ دعاة إلى الحقِّ، وعلِمَ من حال إبليس أنَّهُ لا يَدْعُوا إلاَّ إلى الكُفْرِِ والضلالِ، ثم إنَّهُ تعالى أماتَ الأنْبِيَاءِ الذينَ يَدْعُونَ الخلق إلى الحق، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين يَدْعُونَ إلى الكُفْرِ والبَاطِل، ومن كان مُرِيداً لمَصَالِح العباد ؛ امتنعَ منه أنْ يفعل ذلك.
قالت المُعتزلةُ : اختلف شُيُوخُنَا في هذه المسألةِ فقال الجُبَّائِيُّ : إنَّهُ لا يختلفُ الحالُ بسببِ وجودِهِ وعدمِهِ، ولا يضل بقوله أحَدٌ إلا من لو فَرَضْنَا عدم إبليس، لكان يضل أيضاً ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى :﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات : ١٦٢، ١٦٣]، ولأنَّهُ لو ضَلَّ به أحَدٌ لكان بقاؤه مفسدة.
وقال أبُو هَاشِم : يجوز أنْ يضل به قَوْمٌ، ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشَّهْوَة، فإنَّ هذه الزِّيادة من الشهوة لا توجب فِعْلَ القَبيح إلاَّ أنَّ الامْتناعَ منها يصير أشَقَّ، وأجْلِ تلك الزِّيَادة من المشقَّةِ، تحصل الزِّيادةُ في الثَّواب، فكذا ههنا بسبب بقاءِ إبليس يصير الامتناع من القَبَائِح أشد، وأشق، ولكنه لا ينتهي إلى حدِّ الإلجاء والإكْراهِ.
والجوابُ : أمَّا قول أبي علي فضعيف ؛ لأنَّ الشَّيْطانَ لا بُدَّ وأن يزيِّن القبائِحَ في قلب الكافر ويحسِّنهَا له، ويذكره ما في القَبَائِح من أنواع اللَّذَّاتِ، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حُصُولِ هذا التذكير والتَّزْيين لا يكون مُسَاوِياً لحاله عِنْدَ عدم هذا التذكير والتزيين، ويدلُّ على ذلك العرف، فإنَّ الإنسان إذا حصل له جلساءُ يرغبونه في أمر من الأمُور، ويحسنونه في عينه ويسهِّلُونَ عليه طريقَ الوُصُولِ إليه، ويواظبون على دعوته إليه ؛ فإنَّهُ لا يكون حاله في الإقدام على ذلك، كحاله إذا لم يوجد هذا التَّذْكير والتَّحسين والتَّزيين، والعلم بذلك ضروري.
وأمَّا قولُ أبي هاشم فضروريُّ البُطْلانِ ؛ لأنه إذا صار هذا التَّذكير والتَّزيين حاملاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائِهِ في المفسدة، وما ذكره من خلق الزِّيادةِ في الشَّهْوَةِ فهو حُجَّةٌ أخرى لنا في أنَّ اللَّه تعالى لا يراعي المصلحة، فكيف يمكنه أن يحتجَّ به، والذي يقرره غاية التقرير : أنه لسبب حصول تلك الزِّيادة في الشَّهوة يقع في الكفر وعذاب الأبَدِ، ولو احترزَ عن تلك الشَّهْوَة فغايتُهُ أن يزداد ثوابُهُ بزيَادَةِ تلك المشقَّةِ، وحصول هذه الزَّيادَة من الثَّوابِ شيءٌ لا حَاجَةَ إليْهِ ألْبَتَّة، أمَّا دفعُ العِقَاب المؤبَّدِ، فليه أعظم الحاجات، فلو كان إلهُ العالم مُرَاعياً لمصالح العِبادِ لاسْتَحَال أن
٤٣


الصفحة التالية
Icon