من قبل حسناتهم وعن شمائلهم : من قبل سيِّئاتهم ".
قال ابن الأنْبَاريِّ :" قول من قال الأيمانُ كِنَايَة عن الحسنات والشَّمائِل كناية عن السيئاتِ قول حسنٌ ؛ لأنَّ العرب تقولُ : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالكَ، يُريدُ اجعلني من المُقدَّمينَ عِنْدك، ولا تجعلني من المؤخرين ".
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي أنه قال :" أنتَ عِنْدَنَا باليمين أي : بمنزلة حسنةٍ، وإذا خبثت منزلته قال أنت عندي بالشِّمالِ ".
وقال الحكم والسُّدِّيُّ :" مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ " : من قبل الدنيا يزيّنها لهم، ومن خلفهم : من قبل الآخرة يثبِّطُهُم عنها، وعن أيمانهم من قبل الحقِّ يَصُدُّهُم عنه، وعن شمائلهم : من قبل الباطل يزينه لهم.
وقال قتادَةُ :" أتاهم من بين أيْديِهم فأخبرهم أنَّهُ لا بعث ولا جنَّة، ولا نار، ومن خلفهم في أمْرِ الدُّنْيَا فزينها لهم ودعام إليها، وعن أيْمَانِهِمْ من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وعن شمائلهم زيَّن لهم السِّيئات والمعاصي، ودعاهم إليها ".
وقال مُجَاهِدٌ :" مِنْ بَيْنِ أيديهم، وعن أيمانهم من حث يبصرون ومن خَلْفِهِم، وعن شمائلهم من حيث لا يُبْصِرُونَ ".
قال ابن جريج : معنى قوله :" حَيْثُ يبصرون أي : يخطئون، وحيث لا يُبْصِرُون أي : لا يعلمون أنَّهم يخطئون ".
وقيل : من بَيْنِ أيْدِيهِمْ في تكذيب الأنْبِياءِ والرُّسُلِ الذين يكونون حاضرين، ومن خلفهم في تَكْذِيب من تقدَّمَ من الأنبياء والرُّسُلِ، وعن أَيمانهم في الكُفْرِ والبِدْعَةِ، وعن شمائلهم في أنواع المعاصي.
وقال حُكَمَاء الإسْلامِ : إنَّ في البدن قُوىً أربعاً ؛ هي الموجبة لِقُوَّاتِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، فالقوة الأولى الخياليَّةُ التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها، وهي موضوعة في البطن المقدَّم من الدِّماغِ، وصورة المحسوسات إنَّمَا تَرِدُ عليها من مقدمها.
وإليه الإشارة بقوله :﴿مِنْ بَيْنِ أيْدِيِهِمْ].
وَالقُوَّةُ الثَّانِيَةُ : الوهمِيَّةُ التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة
٤٦
للمحسوسات، وهي موْضُوعَةٌ في البَطْنِ المؤخر من الدِّماغِ، وإليه الإشَارَةُ بقوله :" وَمِنْ خَلْفِهِم ".
والقُوَّةُ الثَّالِثَةُ : الشَّهْوَةُ، وهي موضوعة في الكبدِ، وهي من يمين البدن، وإليه الإشارة بقوله :" وعَنْ أيْمَانِهِم ".
والقُوَّة الرَّابِعَةُ : الغَضَبُ، وهي موضوعةٌ في البطن الأيسر من القلب، وإليه الإشارة بقوله :" وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ".
فهذه القُوَى الأرْبَعُ التي تَتَولَّدُ عنها أحْوالٌ تُوجِبُ زوال السَّعادات الرُّوحانيَّة، والشَّياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوَسْوسَةِ، فهذا هو السَّبَبُ في تعيين هذه الجهات الأربع.
روي عن رسول الله ﷺ أنه قال :" إنَّ الشَّيطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدْمَ بِطَرِيْقِ الإِسْلامِ فقَالَ : اتَّبِعْ دِيْنَ آبَائِكَ فَعَصَاهُ فأسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيْقِ الهِجْرةِ فقالَ لَهُ : تَدَعُ دِيَارَكَ وتَتَغَرَّبُ! فَعَصَاهُ وهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيق الجِهَادِ فقال له : تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فيقُسمُ مَالُكَ وتُنْكَحُ امْرَأتكُ فَعَصَاهُ فقاتَلَ " فهذا الخَبَرُ يدلُّ على أنَّ الشَّيطان لا يترك جهة من جهات الوسْوسَةِ إلاَّ ويلقيها في القَلْبِ.
فإن قيل : فلم [لم] يذكر من الجهات الأربع {مِنْ فَوْقِهِم ومِنْ تَحْتِهِم ؟ ﴾ فالجوابُ أنَّا ذكرنا أنَّ القُوَى التي يتولَّدُ منها ما يُوجِبُ تفويتَ السَّعادات الرُّوحانية فهي موضوعةٌ في هذه الجوانب الأربعة من البدنِ.
وأمّا في الظَّاهر فيروى أنَّ الشَّيْطانَ لمَّا قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا إلهنا، كيف يتخلَّصُ الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأرْبَعِ ؟ فأوحى اللَّهُ تعالى إليهم :" أنه بَقِيَ للإنسان جهتان : الفَوْقُ والتَّحْتُ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدُّعَاءِ على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرْضِ على سبيل الخَشُوع غفرت له ذَنْبَ سبعينَ سَنَةً ".
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٣٦
الوجدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللِّقَاءِ، أو بمعنى العِلْم أي : لا تُلْقي أكثرهم شاكرين أو لا تعلم أكثرهم شاكرين فـ " شاكرين " حال على الأَوَّلِ، مفعول ثانٍ على الثَّانِي.
٤٧
وهذه الجملة تحتمل وجهين : أحدهما : أنَّ تكون استئنافية أخبر اللَّعِينُ بذلك لتظنِّيه قال تعالى :﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ [سبأ : ٢٠]، أو لأنَّهُ علمه بطريق قيل : لأنه كان قد رأى ذلك في اللَّوْح المَحْفوظِ.
ويحتمل أن تكون دَاخِلَةً في حيِّز ما قبلها من جواب القسمِ فتكونُ معطوفةً على قوله :" لأقْعُدَنَّ " أقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْنِ، وأخرى منفَّية.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٧