وقال أبُوا مُسْلِمٍ الأصْفهانِيُّ : بَلْ كان آدمُ وإبليس في الجنَّةِ ؛ لأنَّ هذه الجنَّةَ كانت بعض جنات الأرض، والذي يقوله بعض النَّاس من " أنَّ إبليس دخل الجنَّة في جَوْف الحيَّةِ ودخلت الحيَّة في الجنَّةِ " فتلك القصة ركيكةٌ ومشهورةٌ.
وقال آخَرُون : إنَّ آدم وحَوَّاءَ ربنا قَرُبَا من باب الجَنَّةِ، وكان إبليس واقفاً من خارج الجَنَّةِ على بَابها فيقْرُبُ أحَدُهُمَا من الآخر فتحصل الوسْوسَةُ هناك.
فإن قيل : إنَّ آدم - عليه السلام - كان يَعْرِفُ ما بينه وبين إبليسَ من العداوة، فَكَيْفَ قبل قوله ؟ فالجواب :[لا يَبْعُد أنْ يُقال إنَّ إبليسَ لَقِيَ آدَمَ مِراراً كثيرةً، ورَغَّبَهُ في أكْلِ الشَّجَرَة بِطُرُقٍ كثيرةٍ ؛ فلأجْل] المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثَّر كلامه عند وأيضاً فقال تعالى :﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف : ٢١] أي : حَلَفَ لهما فاعْتَقَدُوا أنَّ أحَداً لا يَحْلِفُ كاذباً فلذلك قبل قوله.
قوله :" لِيُبْدِيَ لَهُمَا " في طلام " لِيُبْدِي " قولان : أظهرهما : أنها لامُ العِلَّةِ على أصلها ؛ لأنَّ قَصْدَ الشَّيْطانِ ذلك.
وقال بعضهم :" اللاَّمُ " للِصَيْرُورةِ والعاقِبَةِ، وذلك أنَّ الشِّيْطَانَ لم يكن يعلم أنَّهُمَا يعاقبان بهذه العُقُوبَةَ الخَاصَّاةِ، فالمعنى : أن أمْرَهُمَا آل إلى ذلك.
الجوابُ : أنهُ يجوزُ أنْ يُعْلم ذلك بطريق من الطُّرُق المتقدِّمةِ في قوله ﴿وَلاَ نَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف : ١٧].
ومعنى قوله :" لِيُبْدِيَ لَهَمَا " ليظهر لهما ما غُطِّي وسُتِرَ عنهما من عوراتهما.
قوله :" مَا وُوْري " " مَا " موصولة بمعنى الذي، وهي مفعول لـ " لِيُبْدِي " أي : لِيُظْهِر الذي سُتِرَ.
وقرأ الجمهور :" وُوْري " بواوين صريحَتَيْنِ وهو ماضٍ مبني للمفعول، أصله " وَارَى " كضارَبَ فلمَّا بُني للمفعول أبْدِلَت الألف واواً كضُورِبَ، فالواو الأولى فاء، والثَّانية زَائِدَةٌ.
وقرا عبد الله :" أُوْرِيَ " بإبدال الأولى همزة، وهو بدلٌ جَائِزٌ لا واجب.
وهذه قَاعِدٌةٌ كليَّةٌ وهي : أنَّه إذا اجتمع في أوَّلِ الكلمةِ واوان، وتحرَّكتِ الثَّانيةُ، أو كان لها نَظِيرٌ مُتَحَرِّكٌ وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً، فمثال النَّوْعِ الأوَّلِ " أوَيْصِلٌ "، وَ " أوَاصِلُ " تصغير واصلٍ وتكسيره، فإنَّ الأصل : وُوَيْصِل، وواصل ؛ فاجتمع واوان في المثالين ثانيتهما متحركة فوجب إبدالُ الأولى همزة.
ومثالُ النَّوْعِ الثَّانِي أوْلى فإنَّ أصلها
٥٤
وُوْلَى، فالثَّانَيِةُ ؛ لكنها قد تتحرَّكُ في الجَمْعِ في قولك : أُوَل ؛ كفُضْلَى وفُضَل، فإن لم تتحرَّك ولم تحمل على متحرّك، جَازَ الإبدَالُ كهذه الآيَةِ الكريمةِ.
ومثله وُوْطِىءَ وأوْطِىءَ.
وقرأ يحيى بن وثاب " وَرِيَ " بواو واحدة مضمومة وراء مكسورة، وكَأنَّهُ من الثُّلاثيِّ المتعدِّي، وتحتاج إلى نَقْلِ أنَّ وَرَيْتُ كذا بمعنى وارَيْتُه.
والمُوَارَاةُ : السَّتْرُ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - لمَّا بلغه موت أبي طالب لعليٍّ :" اذْهَبْ فوارِه ".
ومنه قول الآخر :[مخلع السبيط] ٢٤٣٠ - عَلَى صَدىً أسْوَدَ المُوَارِي
فِي التُّرْبِ أمْسَى وفِي الصَّفِيحِ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٣
وقد تقدَّم تحقيق هذه المادَّةِ والجمهور على قراءة " سَوْءَاتِهما " بالجمع من غير نقل، ولا إدغام.
وقرأ مُجاهدٌ والحسن " سَوَّتهما " بالإفراد وإبدال الهمز [واواً] وإدغام الواو فيها.
وقرأ الحسنُ أيضاً، وأبو جعفر وشَيْبَةُ بن نصاح " سَوَّاتهما " بالجمع وتشديد الواو بالعمل المتقدم.
وقرأ أيضاً " سَواتِهما " بالجمع أيضاً، إلا أنَّهُ نقل حركة الهمزة إلى الواو من غير عملٍ آخَرَ، وكلُّ ذلك ظَاهِرٌ.
فمن قرأ بالجمع فيحتمل وجهين : أظهرهما : أنَّهُ من باب وَضْعِ الجمع موضع التَّثْنِيَةِ كراهية اجتماع تثنيتين، والجمع أخُوا التَّثْنِيَةِ فلذلك ناب منابها كقوله :﴿صَغَتْ قُلُوبُكُمآ﴾ [التحريم : ٤] وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذه القاعدة.
ويحتمل أنْ يكون الجَمْعُ هنا على حقيقته ؛ لأنَّ لكل واحد منهما قُبُلاً، ودُبُراً، والسوءات كنايةٌ عن ذلك فهي أربع ؛ فلذلك جِيءَ بالجَمْعِِ، ويؤيِّدُ الأوَّل قراءةُ الإفراد فإنَّه لا تكون [كذلك] إلاَّ والموضع موضع تثنية نحو :" مَسَحَ أَذُنَيْهِ ظَاهِرهُمَا وبَاطِنَهُمَا ".
فصل في أن كشف العورة من المحرمات دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ كَشْفَ العوْرَةِ من المُنْكَرَاتِ، وأنَّهُ لم يزل مُسْتَهْجَناً في الطِّبَاع مُسْتَقْبَحاً في العُقُولِ.
قوله :﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾.
٥٥