أحدها : أن يكون " لِبَاس " مبتدأ، و " ذلك " مبتدأ ثان و " خير " خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأوَّلِ، والرَّابِطُ هنا اسم الإشارة، وهو أحد الرَّوابِطِ الخَمْسَةِ المتفق عليها، ولنا رابط سَادِسٌ، فيه خلاف تقدَّم التنبيه عليه.
وهذا الوَجْهُ هو أوْجَهُ الأعَارِيبِ في هذه الآية الكريمة.
الثاني : أن يكون " لِبَاس " خبر مبتدأ محذوف أي : وهو لِبَاسُ، وهذا قول أبي إسحاق، وكأنَّ المعنى بهذه الجملة التَّفسيرُ لِلبَاس المتُقدم، وعلى هذا، فيكونُ قوله " ذَلِكَ " جملة أخرى من مبتدأ وخبر.
وقدَّره مكي بأحسن من تَقْدير الزَّجَّاجِ فقال :" وسَتْر العورة لباس التَّقْوَى ".
الثالث : أن يكون " ذلك " فَصْلاً بين المبتدأ وخبره، وهذا قَوْلُ الحوفيِّ، ولا نعلم أنَّ أحداً من النُّحَاةِ أجَازَ ذلك، إلاَّ أنَّ الواحِدِيَّ قال :[ومن قال] إن ذلك لَغْوٌ لم يكن على قوله دلالة ؛ لأنَّهُ يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا.
قال شهابُ الدِّين :" فقوله " لَغْوٌ " هو قريب من القول بالفَصْلِح لأنَّ الفَصْلَ لا محلَّ له من الإعرابِ على قول جمهور النَّحويين من البصريين والكوفيين.
الرابع : أن يكون " لِبَاس " مبتدأ و " ذلك " بَدَلٌ منه، أو عطف بيان له، أو نعت، و " خيرٌ " خبره، وهو معنى قول الزَّجَّاجِ وأبِي عليٍّ، وأبِي بَكْرِ بْنِ الأنْبَاريِّ، إلا أنَّ الحُوفي قال : وأنا أرى ألاَّ يكون " ذلك " نعتاً لـ " لِبَاسُ التَّقْوَى " ؛ لأنَّ الأسْمَاء المبهمة أعرف ما فيه الألف واللاَّم، وما أضيف إلى الألف واللاَّمِ، وسبيل النَّعْتِ أن يكون مُسَاوِياً للمنعوت، أو أقَلَّ منه تَعْرِيفاً، فإنْ كان قد تقدَّم قول أحدٍ به فهو سهوٌ.
قال شهابُ الدِّين : أمّا القَوْلُ به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزَّجَّاج والفارسي وابن
٦٩
الأنْبَارِيّ، ونصَّ عليه أبُو عليٍّ في " الحُجَّةِ "، أيضاً وذكره الوَاحِدِيُّ.
وقال ابن عطيَّة :" هو أنبل الأقوال ".
وذكر مكيٌّ الاحتمالات الثلاثة : أعني كَوْنَهُ بَدَلاً، أو بياناً، أو نعتاً، ولكن ما بحثه الحُوفِيُّ صحيحٌ من حيث الصِّناعةِ، ومن حيثُ إنَّ الصَّحيحَ في ترتيب المعارف ما ذكر من كون الإشارات أعرف من ذي الأداة ؛ ولكن قد يُقَالُ : القائلُ بكونه نَعْتاً لا يجعله أعرف من ذِي الألِفِ واللام.
الخامس : جوَّز أبُو البقاءِ أن يكون " لِبَاسُ " مبتدأ، وخبره محذوف أي : ولباسُ التَّقْوى ساتر عوراتكم وهذا تَقْدِيرٌ لا حاجَةَ إلَيْهِ.
وإسنادُ الإنزالِ إلى اللِّبَاسِ : إمَّا لأنَّ " أنْزَلَ " بمعنى " خَلَقَ " كقوله :﴿وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدِ﴾ [الحديد : ٢٥] ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر : ٦]، وإمَّا على ما يسمِّيه أهل العلم التدريج، وذلك أنَّهُ ينزِّلُ أسْبَابَهُ، وهي الماء الذي هو سَبَبٌ في نبات القُطْنِ والكتَّانِ، والمَرْعى الذي تَأكُلُه البَهَائِمُ ذوات الصُّوف والشَّعَرِ، والوَبَرِ التي يُتَّخَذُ منها الملابِسُ ؛ ونحوه قول الشاعر :[الرجز] ٢٤٤٦ - أقْبَلَ في المُسْتَنِّ مِنْ سَحَابَهْ
أسْنِمَةُ الآبَالِ فِي رَبَابَهْ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦٦
فجعله جَائِياً للأسنمة التي للإبل مجازاً لمَّا كان سبباً في تربيتها، وقريب منه قول الآخر :[الوافر] ٢٤٤٧ - إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِ قَوْمٍ
رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غَضَابَا
وقال الزَّمَخْشَريُّ : جَعَلَ ما في الأرض منزَّلاً من السماء ؛ لأنَّهُ قضي ثَمَّ وكتب، ومنه ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر : ٦].
وقال ابن عطيَّة :" وأيضاً فَخَلْقُ اللَّه وأفعاله، إنَّما هي من علوٍ في القَدْر والمنزلة "، وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه أول الآية.
وفي قراءة عبد الله وأبَيّ " ولِبَاسُ التَّقْوى خَيْرٌ " بإسقاط " ذلك " وهي مقوِّية للقول بالفصل والبدلِ وعَطْفِ البَيَانِ.
وقرأ النَّحْوِيُّ :" ولبُوسُ " بالواو ورفع السِّين.
فأمَّا الرَّفع ُفعلى ما تقدَّم في
٧٠


الصفحة التالية
Icon