وليس المَعْنَى تشبيههم بالبَدْءِ، إنَّمَا المعنى على إعادة الخلق كما ابتدئ، فتقدير " كما بَدأكُمْ تعُودُون " : كما بدأ خلقكم أي : يُحيي خلقكم عوداً كبدئه، وكما أنَّه لم يَعْنِ بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه، كذلك لم يَعْنِ بالعود من غير حذف المُضافِ الذي هو [ " الخلق " فلما حذف قام المضاف إليه مَقَامَ الفاعِلِ، فصار الفَاعِلُونَ مخاطبين.
كما انه لما حذف المضاف] من قوله :﴿كما بدأ خلقكم﴾ صار المخاطبون مفعولين في اللفظ قال شهاب الدين : يعني أنَّ الأصل كما بَدَأ خلقكم يعودُ خلقكم، فحذف " الخلق " في الموضعين وصار المخاطبون في الأوَّلِ مفعولين بعد أن كَانُوا مجرورين بالإضافة أيضاً وفي الثاني صاروا فَاعِلينَ بعد أنْ كانوا مجرورين بالإضافة.
و " بدأ " بالهمز أنشأ واخترع، ويستعمل بهذا المعنى ثلاثياً ورباعياً على " أفْعَلَ " فالثلاثيُّ كهذه الآية، وقد جمعبين الاستعمالين في قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت : ٢٠] فهذا من " أبدأ " ثم قال : كيف بدأ الخلق، هذا فيما يتعدى بنفسه.
وأما ما يتعدَّى بالباءِ نحو : بَدَأتُ بكذا بمعنى قدَّمته وجعلتهُ أوَّل الأشياء، يقال منه : بَدَأتُ به وابتدأت به.
وحكى الرَّاغِب أيضاً أنَّهُ يقال من هذا : ابْدأتُ به على " أفْعَلَ " وهو غريب.
وقولهم : أبْدأت من أرض كذا أي : ابتدأت منها بالخُرُوجِ والبَدْء السيد سمي بذلك ؛ قيل : لأنه يبدأ به في العد إذا عُدَّ السَّادَات وذكروا عليه قوله :[الوافر] ٢٤٥٠ - فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولَمَّا
فَنَادَيءتُ القُبُورَ فَلَمْ تُجِبْنَهْ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٨٠
أي جئت قَبُورَ قومي سيّداً ولم أكن سَيّداً، لكن بموتهم صيّرت سيّداً، وهذا ينظر لقول الآخر :[الكامل] ٢٤٥١ - خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّرِ
وَمِنَ العَنَاءِ تَفَرُّدِي بالسُّؤدُدِ
و " ما " مصدريَّةٌ، أي : كبدئكم.
فصل في معنى " كما بدأكم تعودون ".
قال ابنُ عبَّاس : إنَّ الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، كما قال :﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ﴾ [التغابن : ٢]، ثم يعيدُهم يَوْمَ القيامةِ كما خلقهم مُؤمناً وكافراً.
٨٣
وقال جَابِرٌ : يُبعثون على ما مَاتُوا عليه.
روى جابر بْنُ عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ :" يبعثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عليْهِ، المُؤمِنُ على إيْمَانِهِ، والكَأفِرُ على كُفْرِهِ " وقال أبو العالية :" عَادُوا على علمه فيهم ".
وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ :" كما كتب عَلَيْكُم تَكُونُونَ ".
وقال محمدٌ بْنُ كَعْب :" من ابتدأ الله خلقه على الشِّقْوَةِ صار إليها، وإن عمل عمل أهل السَّعادةِ، كما أنَّ إبليس كان يعمل بِعَمَلِ أهل السَّعادةِ ثم صارَ إلى الشَّقاوةِ، ومن ابتدأ خلقه على السَّعادة صار إليها، وإن عمل بأعْمَال أهل الشٌّقاوة، كما أنَّ السَّحَرَةَ كانت تَعْمَلُ بعمل أهل الشَّقاوةِ فَصَارُوا إلى السَّعادة ".
روى سهل بْنُ سَعْد قال : قال رسول الله ﷺ :" إن العبد يَعْمَلُ فيما يرى النَّاسُ بعمل أهل الجَنَّةِ، وأنَّهُ من أهل النَّار، وإنَّهُ ليعمل فيما يرى النَّاس بعمل أهل النَّارِ، وإنما هو من أهل الجنَّةِ، وإنَّما الأعْمَالُ بالخواتيم " وقال الحسنُ ومُجَاهِدُ : كمَا بَدَأكُمْ وخلقكم في الدُّنْيَا ولم تكونا شيئاً، كذلك تعودون أحياء يَوْمِ القيامةِ : كما قال :﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ [الأنبياء : ١٠٤].
قال قتادةُ، هم من التُّراب وإلى التُّراب يعودُونَ، ونظيره :﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ [طه : ٥٥]، واعلم أنَّه تعالى أمر أولاً بكلمة القِسْطِ وهي لا إله إلا الله، ثم أمر بالصَّلاة ثانياً، ثم بيَّن أنَّ الفائدة في الإتْيَانِ بهذه الأعمال إنما تظهر في الآخرة، ونظيره قوله تعالى لموسى :﴿إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا اا إِلَـاهَ إِلا اا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ [طه : ١٤ - ١٥].
٨٤
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٨٠
في نصب " فريقاً " وجهان : أحدهما : أنَّهُ مَنْصُوبٌ بـ " هَدَى " بعده، و " فريقاً " الثَّانِي منصوب بإضمار فعل يفسِّرهُ قوله :﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ﴾ من حيثُ المعنى والتَّقديرُ : وأضلَّ فريقاً حقّ عليهم.
[قال القُرْطُبِيُّ : وأنشد سيبويه :[المنسرح] ٢٤٥٢ - أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ وَلاَ
أمْلِكُ رَأسَ البَعِير إنْ نَفَرَا
والذِّئْبُ أخْشَاهُ إذْ مَرَرْتُ بِهِ
وَحْدِي وأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرا