كان ذلك القِياسُ مُخَصِّصاً لعموم هذا النَّصِّ، فيكون مردوداً ؛ لأن العمل بالنَّصِّ أوْلَى من العملِ بالقياسِ، قالوا : وبهذا الطَريق يكونُ القرآن وحْدَهُ وافِياً ببيَانِ كل أحكام الشَّريعةِ، ولا حاجة معه إلى شَيْءٍ آخر.
قوله :﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
[ " قل هي للَّذين آمنوا في الحياة الدُّنيا " ] أي : بحقِّها من تَوْحيد الله - عزَّ وجلَّ - والتَّصديق له، فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحّده المنعم عليه وصدَّقَهُ فقد قَامَ بحقِّ النِّعْمَةِ، وإنْ كَفَرَ أمكن الشَّيْطَان من نَفْسِه.
وقيل : أي : هي للَّذين آمَنُوا في الحياة الدُّنْيَا غير خالصةٍ لهم ؛ لأنَّ المشركين شركاؤهم فيها خالصة يَوْمَ القيامة لا يشركهم فيها أحد.
فإن قيل : هلاّ قيل للذين آمنوا ولغيرهم.
فالجواب : لينبه على أنَّها خلقت للذين آمنُوا على طريق الأصالةِ، وأن الكفرة تبع لهم كقوله ﴿وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ [البقرة : ١٢٦]، وسيأتي له أجوبة أُخر في آخر الآية، والمراد التَّنْبِيهُ على أنَّ هذه النِّعم إنَّما تصفو من الشوائب يوم القيامة قوله :" خَالِصَةً " قرأها نافعٌ رفعاً، والباقون نصباً فالرفع من وجهين : أحدهما : أن تكون مرفوعة على خبر المبتدأ وهو " هِيَ "، و " لِلَّذِين آمَنُوا " متعلق بـ " خَالِصَةً "، وكذلك " يَوْمَ القيامةِ ".
وقال مكيٌّ :" ويكون قوله :" للَّذين " بييناً، فعلى هذا يتعلق بمحذوف كقولهم : سَقْياً لك وجَدْعاً لك.
و ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلَّق بـ " آمَنُوا "، والمعنى : قل الطيبات خالصة للمؤمنين في الدُّنيا يَوْمَ القيامةِ، أي : تَخْلصُ يوم القيامة لمن آمَنَ في الدُّنْيَا، وإنْ كانت مشتركة فيها بينهم وبين الكفَّار في الدُّنيا، وهو معنى حسن.
وقيل : المرادُ بخلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ أنَّهُم لا يعاقبون عليها، وإلى تفسير هذا نَحَ سعيدُ بْنُ جُبَيْرِ.
الثاني : أنْ يكون خبراً بعد خبر، والخبر الأوَّل قوله :" لِلَّذينَ آمَنُوا " قاله الزجاج : واستحسنه أبو علي، و ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ على هذا متعلِّق بما تعلَّقَ به الجارُّ من
٩٢
الاستقرار المقدَّرِ، و " يَوْمَ القيامةِ " معمول لـ " خالصة " كما مرَّ الوجه قبله، والتقديرُ : قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدُّنيا، وهي خالصة لهم يوم القيامةِ، وإنْ كانوا في الدُّنيا يشاركهم الكفَّارُ فيها.
ولمّا ذكر أبُو حيَّان هذا الوجه لم يعلَّقُ " فِي الحياةِ " إلابالاستقرار، ولو علق بـ " آمنوا " كما تقدم في الوَجْهِ قَبلَهُ لكان حسناً.
وأمَّا النصب فمن وجه واحد، وهو الحال [من الضَّمير المستتر في الجارِّ والمجرور قبله]، والمعنى : أنَّها ثابة للَّذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يَوْمَ القيامةِ، و " للَّذينَ آمَنُوا " خبر " هِيَ " فتتعلق بالاستقرار المقدَّرِ، وسيأتي أنَّهُ متعلق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم.
و ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ على ما تقدَّم من تعلُّقه بـ " آمنوا " وبالاستقرار المتعلق به للذين، و " يَوْمَ القيامةِ " متعلِّق أيضاً بخالصة، والتقديرُ : قل الطّيبات كائنة أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حال كونهم مقدَّراً خلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ.
وسمى الفراء نصبها على القطع، فقال :" خَالِصَةً " نصب على القَطْعِ، وجعل خبر " هِيَ " في " اللاَّم " التي في قوله :" للَّذين "، ويعنى بالقطع الحال.
وجوَّز أبُو علي أنْ يتعلَّق ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بمحذوفِ على أنَّهُ حال، والعاملُ فيها ما يعمل في " الَّذينَ آمَنُوا ".
وجوَّز الفارسيُّ، وتبعه مكيٌّ أن تتعلَّق " فِي الحياةِ " بـ " حرم " والتقديرُ : من حرم زينة الله في الحياة الدُّنْيَا ؟ وجوَّز أيضاً أن تتعلق بالطّيبات.
وجوَّز الفارسي وحدَهُ أن تتعلَّق بالرزق ومنع مكيٌّ ذلك قال : لأنَّكَ قد فرَّقْتَ بينهما بقوله :﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ يعني أن الرِّزْقَ مصدر، فالمتعلّق به من تمامه كما هو من تمام الموصول، وقد فصلت بينه وبين معموله بجملة أجنبية، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتراض به على الأخْفَشِ.
وجوَّز الأخْفَشُ أن تتعلَّق " في الحياة " بـ " أخرج " أي : أخرجها في الحياةِ الدُّنْيَا، وهذا قد ردهُ عليه النَّاس بأنه يلزم الفَصْلأُ بين أبعاض الصلة بأجنبي، وهو قوله ﴿وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾.
وقوله :﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾، وذلك أنَّهُ لا يُعطَفُ على الموصول إلاَّ بعد تمام صلته، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمامِ صلته ؛ لأنَّ " الَّتِي أخْرَجَ " صفة
٩٣


الصفحة التالية
Icon