وإمَّا بأن " في النَّار " بدل من قول " فِي أمَمٍ " وهو بدل اشتمال كقوله :﴿أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ﴾ [البروج : ٤، ٥].
فإنَّ النَّار بدل من الأخدود، كذلك " في النَّارِ " بدل من " أمَمٍ " بإعاد العامل بدل اشتمال، وتكونُ الظرفية في [ " في " ] مجازاً ؛ لأنَّ الأمم ليسوا ظروفاً لهم حقيقة، وإنَّما المعنى : ادخلوا في جملة أمَمٍ وغمارهم.
ويجوز أن تتعلّق " فِي أمَم " بمحذوف على أنَّهُ حال أي : كائنين في جملة أمم.
و " فِي النَّارِ " متعلّق بـ " خلت " أي : تسبقكم في النَّارِ.
ويجوز أنْ تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ صفة لـ " أمَمٍ " فتكون " أمم " قد وصفت بثلاثة أوصاف : الأولى : الجملة الفعليّة، وهي قوله " قَدْ خَلَتْ ".
والثاني : الجارّ والمجرور، وهو قوله :﴿مِن الْجِنِّ وَالإِنْسِ﴾.
الثالث : قوله :" فِي النَّارِ "، والتقدير : في أممٍ خالية من قبلكم كائنة من الجنِّ والإنس، ومستقرَّة في النَّارِ.
ويجوز أن تتعلَّق " فِي النَّار " بمحذوفٍ أيضاً، لا على الوَجْهِ المذكور، بل على كونه حالاً من " أمَمٍ "، وجاز ذلك وَإنْ كانت نكرة لتخصُّصها بالوصفين المُشَار إليهما.
ويجوز أن يكون حالاً من الضَّميرِ في " خَلَتْ " ؛ إذ هو ضمير الأمَمِ، وقُدِّمت الجنُّ على الإنس ؛ لانَّهم الأصل في الإغواء.
قوله :" كُلَّما دَخَلتْ " تقدَّم نظيرها، وهذه الجملة يحتمل أنتكون صفة لـ " أمم " أيضاً، والعائد محذوفٌ أي : كلما دخلت أمة منهم أي : من الأمَمِ المتقدَّمةِ لعنت أمتها، والمعنى : أن أهل النّار يلعنُ بعضهم بَعْضاً، ويتبرَّأ بعضهم مِنْ بَعْضٍ كما قال تعالى :﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف : ٦٧].
والمرادُ بقوله أختها أي : في الدّين.
قوله :" حتَّى " هذه غاية لما قبلها، والمعنى : أنَّهُم يدخلون فضوْجاً فَوْجاً، لاعناً بعضهم لبعض إلى انتها تداركهم فيها.
١٠٦
وقرأ الجمهور :" إذَا ادَّارَكُوا " بوصل الألف وتشديد الدَّال، والأصلُ : تداركوا، فلما أريد إدغامُهُ فُعل به ما فُعل بـ " ادَّارَأتُمْ "، وقد تقدَّم تصريفه في البقرة [٧٢].
قال مكيٌّ : ولا يستطاع اللفظ بوزنها مع ألف الوصل ؛ لأنَّك تردُّ الزائد أصلياً فتقول : افاعلوا، فتصير تاء " تفاعل " فاء الفعل لإدغامها في فاء الفِعْلِ ؛ وذلك لا يجوزُ، فإنْ وزنتها على الأصل فقلت : تَفَاعَلُوا جاز.
وهذا الذي ذكر من كونه لا يمكن وزنه إلا بالأصْلِ، وهو " ـفاعلوا " ممنوع.
قوله :" لأنَّكَ تردّ الزَّائد أصليّاً ".
قلناك لا يلزم ذلكح لأنَّا نزنه بلفظه مع همزة الوَصْلِ، وتأتي بناء التفاعل بلفظها، فتقولُ : وزن ادَّارَكوا : اتفاعلوا، فيلفظ بالتاء اعتباراً بأصلها، لا بما صارتء إليه حال الإدغام.
وهذه المسألةُ نصُّوا على نظيرها، وهو أنَّ تاء الافتعال إذا أبْدِلت إلى حرف مُجَانِسٍ لما قبلها كما تبدل تاء طاء، أو دالاً في نحو : اصْطَبَر، واضْطَرَبَ، وازْدَجَرَ، وادَّكَرَ، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا : يُلفظ في الوزن بأصل تَاءِ الافتعال، ولا يُلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال، فتقولُ : وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل، فكذلك تقولُ هنا : وزن ادَّاركوا اتفاعلوا لا افَّاعلوا، فلا فرق بين تاء الافتعال والتَّفعال في ذلك.
وقرأ ابْنُ مسعودٍ والأعْمَشُ، ورويت عن أبي عمرو : تَدَارَكُوا وهي أصل قراءة العامة.
وقرأ أبو عمرو " إذا إِدَّاركوا " بقطع همزة الوصل.
قال ابن جني :" هذا مشكل، ومثلُ ذلك لا ينقله ارتجالاً، وكأنَّهُ وقف وقفة مستنكرٍ، ثم ابتدأ فقطع ".
وهذا الذي يُعتقد من أبي عمرو، وإلا فكيف يقرأ بما لا يثبت إلا في ضرورة الشِّعْرِ في الأسماء ؟ كذا قال ابنُ جنيٍّ، يعني أن قطع الف الوَصْل في الضَّرورة إنَّمَا جاء في الأسماء.
وقرأ حميد " أُدْرِكوا " بضم همزة القطع، وسكون الدَّال وكسر الراء، مثل " أخْرِجُوا " جعله مبنياً للمفعول بمعنى : أُدْخِلوا في دركاتها أو أدراكها.
ونقل عن مُجَاهدٍ بْنِ جَبْرٍ قراءتان : فروى عنه مكي " ادَّرَكوا " بوصل الألف وفتح الدال مشدّدة وفتح الراء، وأصلها " ادْتَرَكوا " على افتعلوا مبنياً للفاعل، ثم أدغم، كما أدغم " ادَّان " من الدَّيْن.
١٠٧