وقد تُؤُوِّل العَرْشُ في الآيَةِ بمعنى الملكِ أي : ما استوى الملِكُ الإلَهُ عزَّ وجلَّ.
فصل في تنزيه الله تعالى قال القرطبي : الأكثَرُ من المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ على أنَّهُ إذا وجب تَنْزيهُ البَارِي سبحانه على الجِهَةِ والتَّحَيُّزِ، فمن ضرورة ذلك ولوازمه عِنْدَ عامَّة العُلَمَاءِ المُتقدِّمينَ، وقادتِهِمْ من المتأخِّرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهَةِ، فَلَيْسَ بجهة فوض عِنْدَهُمْ ؛ لأنَّهُ يلزمُ من ذلك عِنْدَهُم متى اختص بجهة أنْ يكون في مكان وحيِّزٍ، ويلزمُ على المكان والحيِّزِ الحركةُ والسُّكُونُ، ويلزم من الحركةِ والسُّكُونِ التَّغَيُّرُ والحُدُوثُ، هذا قول المتكلِّمينَ وقد كان السَّلَفُ الأولُ - رضي الله عنهم - لا يقولون بنفي الجهةِ، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكَافَّةُ بإثْبَاتِهَا لله - تعالى - كما نَطَقَ كِتَابهُ، وأخبرت [رسله]، ولم
١٤٤
ينكر أحدٌ من السَّلَفِ الصَّالِح أنَّهُ استوى على عَرْشِهِ حقيقة، وخُصَّ العَرْشُ بذلك ؛ لأنَّهُ أعْظَمُ مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاسْتِوَاءِ، فإنَّهُ لا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ، كما قال مالكٌ - رحمه الله - :" الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ - يعني في اللغة - والكيْفُ مَجْهُولٌ، والسُّؤالُ عن هذا بِدْعَةٌ "، وكذلك قالت أمُّ سلمة - رضي الله عنها -، وهذا القدرُ كافٍ.

فصل في معنى الاستواء فإن قيل الاستواءُ في اللُّغَةِ : هو العُلُوُّ والاسْتِقْرَارُ.


قال الجَوْهَرِيُّ :" استوى من اعْوِجَاج، واستوى على ظَهْرِ دابّتهِ أي : استقرَّ، واستوى إلى السَّمَاءِ أي قَصَدَ، واستوى أي : اسْتَوْلَى، وظهر ؛ قال الشاعر :[الرجز]
٢٤٨٤ - قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ
واستوى الرَّجُلُ أي : انتهى شبابُهُ، واستوى الشَّيءُ أي : اعتدل، وحكى ابْنُ عَبْدِ البرِّ عن أبي عُبَيْدَةَ في قوله تعالى :﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ قال :" عَلاَهُ ".
قال الشِّاعِرُ :[الطويل]
٢٤٨٥ - وَقَدْ خُلِقَ النَّجْمُ اليَمَانِيُّ واسْتَوَى
أي : علا وارتفع.
قال القرطبيُّ : علوُّ الله - تعالى - وارتفاعُهُ عبارةُ عن علوِّ مَجْدِهِ، وصفاتِهِ، وملكُوتِهِ أي : ليس فوقَهُ فيما يجبُ له من تعالي الجلال أحد [ولا مَعَهُ من يكون العلو مُشْتَركاً بينه وبينه لكن العليّ بالإطلاق سبحانه].
فصل في تأويل الآية قال ابن الخطيب اعلم أنَّهُ لا يمكن أن يكونَ المراد من الآية كونه مُسْتَقِرّاً على العَرْشِ، ويدلُّ على فَسَادِهِ وجوهٌ عقليَّةٌ ونقليَّةٌ : إمَّا العقليَّةُ فأمُورٌ : أحدها : أنَّهُ لو كان مستقرّاً على العرش لكان من الجانب الَّذِي يلي العَرْشَ مُتَنَاهِياً، وإلاّ لزمَ كونُ العَرْشِ داخلاً في ذاتِهِ، وهو محالٌ وكل ما كَانَ مُتَنَاهِياً فإنَّ العقلَ يقتضي بأنَّهُ لا يمنع أن يصير أزْيَدَ منه أو أنقص منه بذرَّةٍ، والعلمُ بهذا الجواز ضروريٌّ، فلو كان البَاري - تعالى - متناهياً من بعض الجوانبِ لكانت ذاتُهُ قابِلَةً للزِّيَادَةِ والنُّقصان، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين ؛ لتخصيص مخصِّصِ وتقدير مُقَدِّرٍ، وكل
١٤٥


الصفحة التالية
Icon