ومنها طَعْنُ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في إلهية الكواكب بكونها آفلة غاربة، فلو كان إله العالم جِسْماً، لكان أبداً غارباً آفلاً وكان متنقلاً من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار، فكلّ ما جعله طعناً في إلهية الكواكب يكون حاصلاً في إله العالمِ فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته ؟ !.
ومنها أنَّهُ تعالى ذكر قبل قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى ﴾ شيئاً، وبعده شيئاً آخر، أمّا المذكُورُ قبل هذه الكلمة فهو قوله :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ وذلك يدلُّ على وُجُود الصَّانِع، وقدرته، وحكمته.
وأما المذكورُ بعد هذه الكلمة فأشياء أوَّلُهَا :﴿يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾، وذلك يَدُلُّ على وجود الله تعالى، وعلى قدرته وحكمته.
وثانيها : قوله :﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ﴾ وهذا أيضاً يَدُلُّ على الوُجُودِ، والقُدْرَةِ والعلم.
وثالثها : قوله :﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾، وهو أيضاً إشارة إلى كمال قُدْرَتِهِ، وحكمته.
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ : أوَّلُ الآية إشارة إلى ذِكْرِ ما يَدُلُّ على الوُجُودِ والقدرة والعلم، وآخر الآية يَدُلُّ أيضاً على هذا المطلوب، وإذا كان كذلك فقوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ يَجِبُ أيضاً أن يكون دليلاً على كمالِ القُدْرَةِ والعلم ؛ لأنَّهُ لو لم يَدُلَّ عليه، بل كان المراد كونه مستقِرّاً على العَرْشِ لا يمكن جعله دليلاً على كَمَالِهِ في القُدْرَةِ، والعلم، والحكمة، وليس أيضاً من صِفَاتِ المَدْحِ والثَّنَاءِ، لأنَّهُ تعالى قادر على أن يُجْلس جميع البَقِّ والبَعُوضِ على العرش، وعلى ما فَوق العرش، فثبت أنَّ كونه جالساً على العَرْشِ ليس من دلائل إثبات الذَّاتِ والصِّفاتِ، ولا من صِفَاتِ المَدْح والثَّنَاءِ، فلو كان المراد من قوله :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ كونه جالساً على العرش، لكان ذلك كلاماً أجْنَبِياً عمّا قبله وعمّا بعده، وذلك يوجب نِهِايَةَ الرَّكاكةِ ؛ فثبت أنَّ المراد منه ليس ذلك بَلِ المُرَادُ منه : كمال قدرته في تَدْبير المُلْكِ، والملكوت، حتّى تصير هذه الكلمة مُنَاسِبَةٌ لما قبلها، ولما بَعْدَهَا، وهو المَطْلُوبُ.
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ : إنَّ قولهُ تعالى :﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ من المُتشابِهَاتِ التي يجب تأويلها، وللعلماء هاهُنَا مذهبان.
الأول : أن يُقْطَعَ بكونه تعالى مُتَعَالِياً عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل الآية على التَّفْصِيل، بل نُفَوِّض عِلْمَهَا إلى الله - تعالى - ونَقُولُ : الاستواءُ على العَرَشِ صفةٌ لله - تعالى - بلا كيف يَجِبُ على الرَّجُلِ الإيمان به، ونَكِلُ العلم فيه إلى الله - عزَّ
١٥٠