فَسكّنوا الضمَّة تخفيفاً، وإذا كَانُوا قد فعلوا ذلك في المفرد، الذي هو أخفُّ من الجَمْعِ كقولهم في عُنُقٍ : عُنْقٌ، وفي طُنُبٍ : طُنْبٌ، فما بالهم في الجمع الذي هو أثقل من المفرد ؟ وقرأ الأخوان :" نَشْراً " بفتح النُّونِ وسكون الشِّين، ووجهها أنَّهَا مَصْدَرٌ واقع موقع الحَالِ بمعنى ناشرة، أو منشورة، أو ذاتُ نَشْرٍ [كُلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره.
وقيل : نَشْراً مصدر مؤكِّد ؛ لأنَّ أرسل، وأنْشَرَ متقاربان.
وقيل : نَشْراً] مصدر على حذف الزَّوائد أي : إنشاراً، وهو واقع موقع الحال أي : مُنْشِراً، أو مُنْشَراً حسب ما تقدَّم في ذلك.
وقرأ عَاصِمٌ :" بُشْراً " بالبَاءِ الموحَّدَةِ مضمومة وسكون الشِّين، وهو جمع بشيرة كنذيرة ونُذُر.
وقيل : جمع فعيل كَقَلِيبٍ وقُلُب ورغيب ورُغُف، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى :﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم : ٤٦] أي تبشّرُ بالمطر، ثم خفِّفت الضَّمَّةُ كما تقدَّم في " النُّشُر "، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ ابن عباس والسُّلمي وابن أبي عبلة قرأوا بضمِّهَا، وهي مرويَّة عن عاصم نفسه فهذه أرْبَعُ قراءات في السَّبْع.
والخامسة : ما ذكرناه عن ابن عباس ومن معه.
وقرأ مسورق :" نَشَراً " بفتح النُّونِ ولاشِّين وفيها تخريجان : أحدهما : نقله أبُو الفتحِ : أنَّهُ اسم جمعٍ كـ " غَيَب " وَ " نشأ " لغائبة وناشئَةٍ.
والثاني : أنَّ فَعَلاً بمعنى مفعول كَقَبَضَ بمعنى مَقْبُوضٍ.
وقرأ أبُو عبد الرحمن :" بَشْراً " بفتح الباء وسكون الشِّين ورُويت عن عاصم أيضاً على أنه مصدر " بَشَر " ثلاثياً.
وقرأ ابن السَّمَيْفَع :" بُشْرى " بزنة رُجْعَى، وهو مصدر أيضاً، فهذه ثَمَان قِراءاتٍ : أربع مع النُّونِ، وأربع مع الباء، هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات، وما هي بالنِّسْبَةِ إلى كونها مفردة أو جمعاً.
١٦٥
وأمَّا نَصْبُها فإنَّها في قراءة نَافِعٍ، ومن معه وابن عامر منصوبة على الحال من " الرِّياح " أو " الرِّيح " حسب ما تقدَّم من الخلاف وكذلك هي في قراءة عَاصِمٍ، وما يشبهها.
وأمَّا في قراءة الأخوين، ومسروق فيحتمل المصدريَّة، أو الحاليَّة، وكلُّ هذا واضح، وكذلك قراءة " بُشْرَى " بزنة رجعى ولا بدَّ من التَّعرُّض لشيء آخر، وهو أنَّ من قرأ " الرِّياح " بالجمع وقرأ " نُشْراً " جمعاً كنافع، وأبي عمرو فواضح.
وأما من أفرد " الرِّيح " وجمع " نُشْراً " كابن كثير، فإنَّهُ يجعل الرِّيح اسم جنس، فهي جمع في المَعْنَى، فوصفها بالجمع كقول عنترة :[الكامل] ٢٤٩٣ - فيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً
سُوداً كخَافِيَةِ الغُرَابِ الأسْحَمِ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٦٣
والحاليَّةُ في بعض الصُّوَرِ يجوز أن تكون من فاعل " يُرْسلُ "، أو مفعوله وكلُّ هذا يُعْرف مما تقدم.
فصل روى أبو هريرة قال : أخذتِ النَّاس ريحٌ بطريق مكَّةَ، وعمر حاجٌّ فاشتدت، فقال عُمَرُ، لمن حوله : ما بلغكم في الرِّيح فلم يرجعوا إليه شيئاً، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح، فاستحثثتُ راحلتي حتى أدْرَكْتُ عمر، فكنت في مُؤخَّر النَّاس، فقلتُ : يا أمير المؤمنين : أخبرتُ أنَّكَ سألت عن الرِّيحِ، إنِّي سمعت رسول الله ﷺ يقولُ : الرِّيحُ من روح الله، تأتِي بالرَّحْمَةِ وتَأتِي بالعذابِ، فلا تَسبُّوهَا، وسلُوا الله من خَيْرِهَا، وتعوَّذُوا به من شرِّها.

فصل في ماهية الريح.


قال ابن الخطيب - رحمه الله - : الرِّيحُ : هواء متحرك، وكونه متحرِّكاً ليس لذاته، ولا للوازم ذاته، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته، فلا بدَّ وأن يكون بتحريك الفاعل المختار وهو الله تعالى.
١٦٦


الصفحة التالية
Icon