قوله :" فَأنْزَلْنَا بِهِ " الضَّميرُ في " به " يعود على أقرب مذكورٍ، وهو " بَلَدٍ مَيّتٍ "، وعلى هذا فلا بدَّ من أن تكون الباء ظرفيّة، بمعنى أنزلنا في ذلك البلدِ الميِّتِ الماء، وجعل أبُو حيّان هذا هو الظَّاهِرُ.
وقيل : الضَّميرُ يعود على " السَّحَابِ "، ثم في " البَاءِ " وجهان : أحدهما : هي بمعنى " مِنْ " أي : فأنزلنا من السَّحَابِ الماء.
والثاني : أنَّهَا سببيَّةٌ أي : فأنزلنا الماء بسبب السَّحَابِ.
وقيل : يعودُ على السَّوْقِ المفعوم من الفعل و " الباءُ " سببية أيضاً [أي] : فأنزلنا بسبب سَوْقِ السَّحابِ، وهو ضعيفٌ لعَوْد الضَّمير على غير مذكور مع إمكان عَوْدِهِ على مذكُورٍ.
قوله :" فَأخْرَجْنَا بِهِ " الخلافُ في هذه الآيةِ كالَّذِي في قبلها، ونزيد عليه وجهاً أحْسَنَ منها، وهو العودُ على الماء، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه.
وقوله :﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ " من " تبعيضية، أو ابتدائية، وقد تقدم نظيره.
فصل اعلم أنَّ السَّحَابَ للمياه العظيمةِ إنما يبقى معلقاً في الهواء ؛ لأنَّهُ تعالى دبَّر بحكمته أن يحرِّكَ الرِّياح تحركاً شديداً، فلأجل الحركاتِ الشَّديدةِ التي في تلك الرياح تحصل فوائد.
أحدها : أنَّ أجزاء السَّحابِ ينضمُّ بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقدُ السَّحابُ الكثيرُ المَاطِرُ.
١٦٩
وثانيها : أنَّ بسبب حركات الرِّياح الشَّديدةِ يمنةً ويُسْرَةً يمتنع على تلك الأجزاء المائيَّة النُّزُول، فلا جَرَمَ يبقى معلّقاً في الهواء.
وثالثها : أن بسب حركات تلك الرِّياح يناسقُ من موضع غلى موضع آخر يكون محتاجاً في علم اللَّهِ - تعالى - إلى نزولِ الأمْطَارِ.
ورابعها : أنَّ حركاتِ الرِّياحِ تارةً تكون جامعةً لأجزاء السَّحابِ، وتارةً مفرقة لأجزاءِ السَّحَابِ.
وخامسها : أنَّ هذه الرِّياحَ تارةً تكونُ مُقَوِّيَةً للزُّرُوع والأشجار مكلمة لما فيها من النشوء والنَّمَاءِ، وهي الرِّيَاحُ اللَّواقِحُ، وتارةً تكونُ مبطلة لها، كام تكونُ في الخريف.
وسادسها : أنَّ هذه الرِّياح تارةً تكون طيِّبة موافقة للأبدان، وتارةً تكون مُهْلِكَة : إمَّا بسبب ما فيها من الحرِّ الشَّديدِ كما في السَّمُومِ، أو بما فيها من البرد الشَّديدِ، كما في الرِّياحِ الباردة والمهلِكَة.
وسابعها : أنَّ هذه الرِّياحَ تكونُ [تارةً] شرقيَّةً، وتارة غربيَّة، وشماليَّةً، وجنوبيَّةً، كذا ضبطه بعض النَّاسِ، وإلا فالرِّياحُ تهبُّ من كلِّ جانبٍ من جوانبِ العالم، ولا اختصاصَ لها بجانب من جَوَانبِ العالمِ.
وثامنها : أنَّ هذه الرِّياحَ تصعدُ من قعر البَحْرِ، فإنَّ من ركب البَحْرَ يشاهد أن البَحْرَ، يحصل له غليان شديد بسبب تولُّدِ الرِّياحِ في قَعْرِ البَحْرِ، ثمَّ لا يَزَالُ يَتَزَايدُ الغليانُ ويقوى إلى أن تَنْفَصِلُ تلك الرِّيَاحُ من قَعْرِ البَحْرِ إلى ما فوقَ البَحْرِ، وحينئذٍ يَعْظُمُ هبُوبُ الرِّيَاح في وجه البَحْرِ، وتارةً ينزل الرِّيح من جهة فوق فاختلافُ الرِّياحِ بسبب هذه المعاني عجيبٌ.
وعن ابْن عُمَرَ الرِّيَاحُ ثمانٍ : أربعٌ عَذَابٌ وهي القَاصِفُ، والعاصفُ والصَّرْصَرُ، والعَقِيمُ، وأربعٌ منها رحمة وهي : النَّاشِرَاتُ، والمبشّرَاتُ، والمُرْسلاتُ، والذَّارِيَاتُ.
وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ :" نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأهْلِكَ عادٌ عادٌ بالدَّبُّورِ " و " الجَنُوبُ مِنْ رِيحِ الجَنَّةِ ".
وعن كعب : لَو حَبَسَ اللَّهُ الرِّيحَ عن عَبَادِهِ ثلاثةً أيَّام لأنْتَنَ أكثر أهْلِ الأرْضِ.
وعن السُّدِّيِّ أنَّه تعالى يرسل الرِّيَاحَ، فتأتي بالسَّحَابِ، ثم إنَّهُ تعالى يسبطه في
١٧٠


الصفحة التالية
Icon