قوله :" أبَلَّغُكُمْ " يجوزُ أن تكون جملة مستأنفة أتى بها لبيانِ كونه رسولاً، ويجوز أن تكون صفةً لـ " رَسَولِ "، ولكنَّهُ راعى الضَّمِيرَ السَّابِقَ الذي للمتكلِّم فقال : أبَلِّغُكُمْ، ولو راعى الاسم الظَّاهِرَ لقال : يُبَلِّغكم، والاستعمالان جائزان في كلِّ اسم ظاهرٍ سبقه ضمير حاضر من متكلم، أو مخاطب فتحرَّر لك فيه وجهان :
١٨٠
مراعاةُ الضَّميرِ السَّابِقِ، وهو الأكثر، ومراعاة الاسم الظَّاهر فيقول : أنَا رجلٌ أفعل كذا مراعاة لـ " أنا "، وإن شئت أنا رجل يفعل كذا مراعاة لرجُلٍ، ومثله : أنْتَ رجلٌ يفعل وتفعلُ بالخطاب والغيبة.
وقرأ أبو عَمْرو :" أبْلِغُكُمْ " بالتَّخفيف، والباقون بالتَّشديدِ، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعين، وفي الأحقاف والتَّضعيف والهمزة للتَّعْدِيَةِ كأنْزَلَ، ونَزَّلَ، وجمع " رسالة " باعتبار أنواعها من أمر ونهي، ووعظ، وزجر، وإنذار، وإعذار، وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله :﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ﴾ [هود : ٥٧] فهذا شاهدٌ لقراءة أبِي عَمْرٍو، وجاء على فعَّل في قوله :﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة : ٦٧] فهذا شاهدٌ لقراءة الجماعة.
واعلم أنَّهُ ذكر ما هو المقصود من الرِّسالة، وهو أمران : أن يبلغ الرِّسالة، وتقدرير النَّصِيحَةِ، والفرقُ بينهما أنَّ تبليغ الرِّسالة معناه : أن يعرفهم أنْوَاعَ تَكَاليفِ اللَّه، وأوامره، ونواهيه، وأمَّا النَّصيحةُ فهو ترغيبهم في الطَّاعَةِ، وتحذيرهم عن المعاصي.
قوله :" وأنْصَحُ لَكُمْ ".
قال الفرَّاءُ : العربُ لا تَكَادُ تقُولُ : نصحتك، إنَّمَا يقولون : نصحتُ لك، ويجوز أيضاً : نَصَحْتُكَ.
قال النابغة :[الطويل] ٢٤٩٨ - نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا نُصْحِي
وسُؤلِي، وَلَمْ تَنْجَحْ لَديْهِمْ رَسَائِلِي
فصل في بيان حقيقة النصح وحقيقةُ النُّصْحِ الإرْشَادُ إلى المصلحةِ مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى : إنِّي أبَلِّغ لَكُمْ تَكَالِيفَ اللَّهِ، ثمَّ أرشدكم إلى الأصوب، والأصْلَحِ، وأدعوكم إلى ما دَعَانِي، وأحبِّبُ لكم ما أحبه لنفسي.
قوله :﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
قيل : أعلم أنكُم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطُّوفَانِ.
١٨١
وقيل : أعلم أنَّهُ يعاقكم في الآخرة عذاباً شديداً، خارجاً عمَّا تتصوَّرُهُ عقولُكْمْ.
وقيل : أعلم من توحيد الله وصفاتِ جلالهِ ما لا تعلمون.
والمقصود من ذكر هذا الكلام : حملُ القَوْمِ على أنْ يرجعوا إليه في طلب تلك العُلُومِ.
واعلم أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - أزال تعجبهم وقال : إنَّه تعالى خالق الخلق، فله بحكم الإلهية أنْ يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها، ولا يجوزُ أن يخاطبهم بتلك التَّكاليف من غير واسطة ؛ لأنَّ ذلك ينتهي إلى حَدِّ الإلجاء، وهو يُنَافِي التَّكْلِيف، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسُولُ من الملائكة، لما تقدَّم في " الأنعام " في قوله :﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ [الأنعام : ٩]، فلم يَبْقَ إلا أن إيصال التَّكالِيف إلى الخَلْقِ بواسطة إنسان يبلغهم، وينذرهم ويحذرهم، وهذا جوابُ شُبَهِهم.
قوله :" أوَ عَجْبتُمْ " ألفُ استفهامٍ دخلت على واو العَطْفِ، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهَمْزَةِ السَّابقة على الواو، وقدَّر الزمخشري على قاعدته معطوفاً عليه محذوفاً تقديره : أكذَّبْتُمْ وعجبتم " أنْ جَاءَكُمْ " أي : مِنْ جاءكم، فلما حذف الحَرْفَ جرى الخلاف المشهورُ.
" مِنْ رَبِّكُمْ " صفةٌ لـ " ذِكْر ".
" عَلَى رَجُلٍ " : قال ابْنُ قُتَيْبَةَ :[قال الفرَّاءُ] : يجوز أن تكون على حذف مضافٍ، أي : على لِسَانِ رَجُل ".
وقيل : على بمعنى " مع "، أي : مع رجل فلا حذف.
وقيل : لا حاجة إلى حَذْف، ولا إلى تضمين حرف ؛ لأنَّ المعنى أُنزل إليكم ذِكْر على رَجُلٍ، وهذا أوْلى ؛ لأنَّ التَّضْمِينَ في الأفعال أحسن منه في الحُرُوفِ لقوَّتِهَا وضعف الحُرُوفِ.
فصل في معنى " الذكر " قال ابنُ عَبَّاسٍ : الذَّكْرُ الموعظة.
وقال الحَسَنُ : إنه الوَحْيُ الَّذي جَاءَهُمْ بِهِ.
وقيل : المراد بالذِّكْرِ المُعْجِز.
وقيل : بيان " عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ " أي تعرفون نسبه، فهو منكم نسباً.
" ليُنْذِرْكُمْ " أي : لأجْلِ أن ينذركم عذابَ اللَّه.
" وَلِتَتَّقُوا " أي : لكي تَتَّقُوا.
" وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون " أي : لكي ترحموا.
١٨٢