قوله :﴿فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾.
اعلم أنَّ قوم شُعَيْبٍ كانوا مشغوفين بالبَخْسِ والتَّطْفيف.
فإن قيل :" الفاء " في قوله :" فأوفوا " توجب أن يكون الأمر بإيفاء الكيل كالتعليل لما سبق ذكره، وهو قوله :﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ فكيف وجهه ؟ فالجوابُ : كأنَّهُ يقول لهم : البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشَّيءِ القليل، وهو مستقبح في العقل، ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة بتحريمه فلم يبق فيه عذر " فَأْفُوا الكَيْلَ ".
وقال هنا :" الكَيْلَ " ولم يقل :" المِكْيَالَ " كما في سورة هود [٨٤] ؛ لأنَّهُ أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال، أو يسمى ما يكال به الكيل كما يقال :" العيش " لما يعاش به.
قوله :﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ قد تقدّم معنى هذه اللفظة في قوله :﴿وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ [البقرة : ٢٨٢]، وهو يتعدّى لاثنين، وهما " النَّاس " و " أشياءهم "، أي : لا تنقصوهم أشياءهم ولا يظلموهم، ويدخلُ فيه المَنْعُ من الغَصْبِ، والسرقة والرشوة، وقطع الطريق، وانتزاع الأموال بطريق الحيل.
قوله :﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾.
وذلك أنَّهُ لما كان أخذُ أموال النَّاس بغير رضاهم يوجب المُنازَعَة والخصومة، وهما يوجبان الفَسَادَ، لا جَرَمَ قال بعده :﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾.
وقيل : أراد المَنْعَ من كلِّ فسادٍ.
وقيل : أراد بقوله :﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ المنع من فساد الدُّنيا، وبقوله :﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ﴾ المنع من فساد الدِّين.
واختلفوا في معنى " بَعْدَ إصْلاحِهَا " : فقيل : بعد أن صلحت ببعثة الرسل.
وقيل : بعد أن أصلحها بتكثير النّعَمِ.
ثم قال :" ذَلِكُمْ " وهو إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الأمر والنهي " خَيْرٌ لَّكُمْ " في الآخرة ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ مصدِّقين بما أقول.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٩
يجوز أن تكون " الباء " على حالها من الإلصاق أو المصاحبة، أو تكون بمعنى " في " يقال : قَعَدَ لَهُ كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، فتتعاقب هذه الحروف في هذا الموضع لتقارب معانيها، فقعد بمكان : الباء للغلصاق، وقد التصق بذلك المكان،
٢١١
و " على " للاستعلاء، وقد علا ذلك المكان، و " في " للحلول، وقد حلّ ذلك المكان.
و " تُوعَدُونَ "، و " تَصُدُّون "، ، و " تَبْغُونَ " هذه الجمل أحوال [أي] : لا تَقْعُدُوا مُوْعدين وصادِّين وباغين.
ولم يذكر الزعد له لِتَذْهَبَ النَّفسُ كلَّ مذهبٍ : ومفعول " تصدُّون " " مَنْ آمَن ".
قال أبُو البقاء :" مَنْ آمَنَ " مفعول " تَصُدُّونَ " لا مفعول " تُوعدُونَ "، إذْ لو كان مفعولاً للأوَّل لقال :" تَصُدُّونَهُم "، يعني أنَّه لو كان كذلك لكانت المسألة من التَّنازع، وإذا كانت من التنازع وأعْمَلْتَ الأولَ لأضْمَرْتَ في الثاني فكنت تقول :" تَصُدُّونهم " لكنه ليس القرآن كذا، فدل على أن " تُوعَدُونَ " ليس عاملاً فيه، وكلامُه يحتمل أنْ تكون المسألة من التَّنازع - يكون ذلك على إعمال الثاني، وهو مختار البصريين وحذف من الأوَّل - وألاَّ تكون وهو الظَّاهِر.
وظاهرُ كلام الزمخشري : أنَّهَا من التَّنَازُع، وأنَّهُ من أعمال الأوَّل، فإنَّهُ قال : فإن قلت : إلاَمَ يَرْجِعُ الضَّميرُ في " من آمَنَ بِهِ " ؟ قلتُ : إلى كلِّ صراطٍ، تقديره : تُوْعِدون من آمن به وتَصُدُّون عنه، فوضعَ الظَّاهِر الذي هو " سبيل الله " موضع المضمر زيادة في تقبيح أمرهم.
قال أبو حيَّان :" وهذا تعسُّف وتكلُّفٌ مع عدم الاحتياج إلى تقديم وتأخير، ووضع ظاهر موضع مضمر، إذ الأصل خلاف ذلك كُلَّهِ، ولا ضرورة تَدْعُوا إليه، وأيضاً فإنَّهُ من أعمال الأوَّل وهو مذهب مَرْجُوحٌ، ولو كان من إعمال الأوَّلِ لأضمر في الثاني وُجُوباً، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورة شعرٍ عند بعضهم [كقوله] :[مجزوء الكامل] ٢٥١٩ - بِعُكَاظَ يُعْشِي النَّاظِريـ
ـنَ إذَا هُمُ لَمَحُوا شُعَاعَهْ
فأعمل " يُغشي " ورفع به " شُعَاعه " وحذفَ الضمير من " لَمَحُوا " تقديره : لمحوه، وأجازه بعضهم بقلةٍ في غير الشِّعْرِ.
والضَّمير في " به " : إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن الزمخشريِّ، وإمَّا على الله للعلم به، وإمَّا على سبيل الله، وجاز ذلك ؛ لأنَّهُ يذكَّر ويُؤنَّثُ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال :" به " فذكَّر، وقال :" وتَبْغُونها عِوَجاً " فأنَّث، ومثله :﴿قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِى ﴾ [يوسف : ١٠٨] [وقد تقدَّم] نحو قوله :﴿تَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ [آل عمران : ٩٩] في آل عمران.
٢١٢


الصفحة التالية
Icon