واعلم أن " لا " لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي، وهي فيه على قسمين : قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم، وقسم تنفي فيه الوحدة، وتعمل حينئذ عمل " ليس "، ولها قسم آخر، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله :﴿وَلاَ الضَّآلِّينَ﴾ [الفاتحة : ٧].
و " الرَّيْب " : الشّك مع تهمة ؛ قال في ذلك :[الخفيف] ١١١ - لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ
إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ
وحقيقته على ما قال الزَّمخشري :" قلق النفس واضطرابها ".
ومنه الحديث :" دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما يُرِيبك ".
ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال :" لاَ يُرِبهُ أَحَدق بشيءٍ ".
فليس قول من قال :" الرَّيب الشك مطلقاً " بجيّد، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم.
وقال بعضهم : في " الرّيب " ثلاثة معانٍ :
٢٦٧
أحدها : الشّك ؛ قال ابن الزِّبَعْرَى :[الخفيف] ١١٢ - لَيْسَ فِي الحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ
........................
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٥١
وثانيها : التُّهْمَةُ ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ :[الطويل] ١١٣ - بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي
فَقُلْتُ : كِلاَنَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ
وثالثها : الحاجات ؛ قال :[الوافر] ١١٤ - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ
وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا
قال ابن الخطيب : الريب قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن سوء، كأنه ظن سوء، تقول : رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً.
فإن قيل : قد يستعمل الريب في قولهم :" ريب الدهر " و " ريب الزمان " أي : حوادثه، قال تعالى :﴿نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور : ٣٠] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، كقول الشاعر :[الوافر] ١١٥ - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلُّ رَيْبٍ
..................
قلنا : هذا يرجعان إلى معنى الشك، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى :﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ المراد منه : نفي كونه مَظَنَّةً للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته،
٢٦٨
ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً.
ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى :﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ [البقرة : ٢٣].
فإن قيل : لم تأت، قال ها هنا :" لاَ رَيْبَ فِيهِ " وفي موضع آخر :﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ [الصافات : ٤٧] قلنا : لأنهم يقدمون الأهمّ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب.
ولو قلت :" لا فيه ريب " لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا ها هنا، كما قصد في قوله تعالى ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا.
فإن قيل : من أين يدلّ قوله :" لاَ رَيْبَ فِيهِ " على نفي الريب بالكلية ؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدّليل عليه أن قوله :" لا ريب " نفي لماهيّة الريب ؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية ؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية، وذلك مُنَاقض نفي الماهية، ولهذا السّر كان قولنا :" لا إله إلا الله " نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى.
وقرأ أبو الشعثاء :" لاَ رَيْبُ فِيهِ " بالرفع، وهو نقيض لقولنا :" ريب فيه "، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد، فيتحقق التناقض.
والوقف على " فيه " هو المشهور.
وعن نافع وعاصم أنهما وَقَفَا على " ريب "، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله :﴿لاَ ضَيْرَ﴾ [الشعراء : ٥٠] وقول العرب :" لا بأس ".
واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا : إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا، فنحن قد نشك فيه، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه.
الجواب :[المراد] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب
٢٦٩


الصفحة التالية
Icon