قالوا : يجبُ حمله على أنه يوجدُ الحقَّ وبكونه، والحقُّ ليس إلاَّ الدين والاعتقاد، فدل على أنَّ العقائد الحقة لا تحصل إلاَّ بتكوين الله، ولا يمكنُ حمل تحقيق الحقِّ على إظهار آثاره ؛ لأنَّ ذلك الظُّهُورَ حصل بفعل العبادِ، فامتنع إضافة ذلك الإظهار إلى اللَّهِ تعالى، ولا يمكنُ أن يقال : المرادُ من أظهاره وضع الدلائل عليها، لأنَّ هذا المعنى حاصلٌ في حق الكافر والمسلم.
وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يَبْقَى لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً.
قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ تدلُ على أنَّهُ يريدُ تحقيق الباطل وإبطال الحق ألبتَّة، إنَّما يريد تحقيق الحقِّ، وإبطال الباطل، وذلك يبطلُ قول من يقول إنَّه لا باطل ولا كفر إلاَّ والله تعالى مريدٌ له.
وأجيبوا : بأنه ثبت في أصول الفقة أنَّ المفرد المحلى بالألف واللاَّم ينصرفُ إلى المعهود السَّابقِ فهذه الآية دلَّـ على أنَّه تعالى أراد تحقيق الحق، وإبطال الباطل في الصُّورة، فلم قُلْتُم إنَّ الأمر كذلك في جميع الصُّور ؟ وقد بيَّنا أيضاً بالدَّليلِ أنَّ هذه الآية تدلُّ على صحَّة قولنا.
ثم قال تعالى :﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ أي : المشركون.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٥٨
قوله :﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ الآية.
في " إذْ " خمسة أوجه : أحدها : أنَّهُ منصوبٌ بـ " اذْكر " مضمراً، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً، أي : إنَّهُ منقطعٌ عمَّا قبله.
والثاني : أنَّهُ منصوب بـ " يُحِقَّ " أي : يحقُّ الحقَّ وقت استغاثتكم، وهو قول ابن جرير وهو غلط ؛ لأن " لِيُحِقَّ "، مستقبل ؛ لأنَّه منصوبٌ بإضمار " أنْ " و " إذْ " ظرف لما مضى، فكيف يعمل المستقبل في الماضي ؟.
الثالث : أنَّهُ بدلٌ من " إذ " الأولى، قاله الزمخشري، وابن عطيَّة، وأبُو البقاءِ وكانوا قد قدَّمُوا أنَّ العامل في " إذْ " الأولى " اذكر " مقدراً.
الرابع : أنَّهُ منصوب بـ " يَعِدُكُمُ " قاله الحوفيُّ، وقبله الطبري.
الخامس : أنَّهُ منصوب بقوله " تَوَدُّونَ " قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصْلِ.
واستاث : يتعدَّى بنفسه، وبالباءِ، ولم يجىء في القرآن إلاَّ متعدِّياً بنفسه، حتَّى نقم ابن مالك على النحويين قولهم : المستغاث له، أو به، والمستغاث من أجله، وقد أنشدوا على تعدِّيه بالحرف قول الشاعر :[البسيط]
٤٥٩
٢٦٧٤ - حَتَّى اسْتَغَاثَتْ بماءٍ لا رشاءَ لَهُ
من الأبَاطِحِ في حَافَاتِهِ البُرَكُ
مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ
ريحٌ خريقٌ لضاحِي مائِهِ حُبُكُ
كَمَا استغاثَ بِسَيءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ
خَافَ العُيُونَ ولمْ يُنظَرْ بِه الحِشَكُ
فدلَّ هذا على أنَّهُ يتعدَّى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره.
فصل الاستغاثةُ : طلبُ الغَوْث، وهو النَّصرُ والعونُ، وقيل : الاستغاثةُ : سدُّ الخَلَّةِ وقتَ الحاجةِ، وقيل : هي الاستجارةُ، ويقالُ : غَوْثٌ، وغواثٌ، والغَيْث من المطرِ، والغَوْثُ من النُّصرةِ، فعلى هذا يكون " اسْتَغَاثَ " مشتركاً بينهما، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل، فيقال : اسْتَغثْتُهُ فأغاثني من الغَوث، وغَاثَني من الغَيْث، وفي هذه الاستغاثَةُ قولان : الأول : أنَّ هذه الاستغاثة كانت من الرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسَّلام -.
قال ابن عبَّاسٍ : حدّثني عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - قال :" لمَّا كان يوم بدرٍ نظر رسولُ الله ﷺ إلى المشركين، وهم ألف وإلى أصحابه، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، واستقبل القبلة، ومد يده، فجعل يهتف بربّه :" اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي ما وعدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهلِكْ هذه العصابة لا تُعْبَدُ في الأرضِ " فلم يزل كذلك حتّضى سقط رداؤهُ عن منكبه، وردَّه أبو بكر ثمَّ التزمه، ثم قال : كفاكَ يا نبيَّ اللَّهِ مناشَدَتكَ ربَّك، فإنَّه سَيُنْجِزُ لك ما وعدكَ " ؛ فأنزل اللَّهُ الآية، ولما اصطفّ القومُ قال أبُو جهلٍ : اللَّهُمَّ أولانا بالحقَّ فانْصُرهُ.
الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين ؛ لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم، بل خوفهم كان أشَدّ من خوف الرسول، ويمكن الجمع بينهما بأنَّ النبي ﷺ دعا وتضرع، والمؤمنون كانوا يُؤمِّنونَ على دعائه.
٤٦٠