هذه الأوجه أحسنُ من أنَّهُ أخبر عن الموصول قبل تمام صلته، وضعَّف الثَّالث بأنَّهُ يلزم منه أن يكون استقرارُ النَّصْرِ مُقَيَّداً بهذا الظَّرفِ، والمنَّصرُ من عند اللَّه لا يتقيَّدُ بوقت دون وقت وهذا لا يضعفُ به ؛ لأنَّ المراد بهذا النَّصر نصرٌ خاص، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيَّداً بذلك الظرف.
وضعَّف الرابع بطولِ الفصلِ، ويكون معمولاً لما قبل " إلاَّ ".
السادي : أنَّهُ منصوبٌ بقوله :" ولتَطْمئنَّ بِهِ " قاله الطَّبريُّ.
السابع : أنَّهُ منصوبٌ بما دلَّ عليه :" عزيزٌ حكيمٌ " قاله أبُو البقاءِ ونحا إليه ابن عطيَّة قبله.
وقرأ ابنُ كثير، وأبو عمرو :" يغْشاكُمُ النُّعاس "، ونافع " يُغشِيكُمُ " بضمِّ الياءِ، وكسر الشِّين خفيفة " النَّعاسَ " نصباً والباقون " يُغَشِّكُمُ " كالذي قبله، إلاَّ أنه بتشديد الشِّين.
فالقراءة الأولى من :" غَشِيَ يَغْشَى "، و " النَّعاسُ " فاعل، وفي الثانية من :" أغْشَى " وفاعله ضميرُ الباري تعالى، وكذا في الثالثة من :" غَشَّى " بالتشديدن و " النُّعاس " فيهما مفعول به.
و " أغْشَى وغَشَّى " لغتان.
قال الواحديُّ :" من قرأ " يَغْشَاكم " فلقوله :﴿أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى ﴾ [آل عمران : ١٥٤] فكما أنسد الفعل هناك إلى " النُّعاس "، و " الأمَنَة " التي هي سبب النُّعاس كذلك ههنا، ومن قرأ " يُغشيكم "، أو " يُغشِّيكم " فالمعنى واحدٌ، وقد جاء التَّنْزِيلُ بهما في قوله :﴿فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [يس : ٨] وقال :﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ﴾ [النجم : ٥٤].
قوله :" أمَنَةً " في نصبها ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّه مصدرٌ لفعلٍ مقدر، أي : فأمِنْتُم أمَنَةً.
الثاني : أنَّها منصوبةٌ على أنَّها واقعةٌ موقع الحال إمَّا من الفاعل، وإمَّا من المفعول، فإن كان الفاعل ُ " النعاس " فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ، وإن كان الباري تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبةُ حقيقيةٌ، وإن كان من المفعولِ فعلى المبالغةِ، أي : جعلهم نفس الأمنة، أو على حذف مضاف، أي : ذوي أمنة.
الثالث : أنَّه مفعولٌ من أجله، وذلك إمّضا أن يكون على القراءتين الأخريين أو على الأولى، فعلى القراءتين الأخريين أمرها واضحٌ، وذلك أن التَّغشية، أو الإغشاء من اللَّهِ تعالى، والأمنةُ منه أيضاً، فقد اتَّحد الفاعل فصحَّ النَّصْبُ على المفعول له، وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل " يَغْشَى " النُّعاس وفاعل " الأمنة " الباري تعالى، ومع اختلافِ الفاعل يمتنع النَّصْبُ على المفعولِ له على المشهُورِ، وفيه خلاف اللَّهُمَّ إلاَّ أن يتجوَّز فيجوز.
٤٦٦
وقد أوضح ذلك الزمخشريُّ فقال : و " أمَنَةً " مفعولٌ له.
فإن قلت : أما وجب أن يكون فاعلُ الفعل المُعَلَّلِ والعلَّة واحداً ؟ قلتُ : بلى، ولكن لمَّا كان معنى :" يَغْشَاكُمُ النعاسُ " تنعسون، انتصب " أمَنَةً " على معنى أنَّ النُّعَاس والأمَنَةَ لهم، والمعنى : إذ تنعسون أمنة بمعنى أمناً.
ثم قال :" فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب على أنَّ الأمنة للنُّعاسِ الذي هو فاعل " يَغْشَاكُم ؟ أي : يغشاكم النُّعاسُ لأمنة على أنَّ إسنادَ الأمْن غلى النعاس إسنادٌ مجازي، وهو لأصحاب النُّعاس على الحقيقة، أو على أنه أنامكم في وقتٍ كان من حق النعاس في ذلك الوقتِ المخوف أن لا يقدم على غشيانكم، وإنَّما غشَّاكم أمنةً حاصلةً له من اللَّهِ لولاها لم يغشكم على طريقة التَّمثيل، والتخييل ".
قال شهابُ الدين : لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله، وله فيه نظائرُ، ولقد ألمَّ به بعضهم ؛ فقال :[الوافر] ٢٦٧٦ - يَهَابُ النَّوْمُ أنْ يَغْشَى عُيُوناً
تَهَابُكَ فهو نفَّارٌ شَرُودُ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٦٥
قوله :" مِنْهُ " في محلِّ نصب لـ " أمَنَةً " والضميرُ في :" منهُ " يجوز ان يعود على الباري تعالى، وأن يعود على " النُّعاسِ " بالمجازِ المذكور آنفاً، وقرأ ابنُ محيصن، والنَّخعي، ويحيى بنُ يعمُر :" أمْنَةً " بسكون الميم، ونظير : أمِنَ أمَنَةً بالتحريك : حَيِيَ حياة، ونظير : أمِنَ أمْنَة بالسُّكُون : رَحِمَ رَحْمَةً.
فصل كلُّ نوم ونعاس فإنه لا يحصلُ إلاَّ من قبل الله تعالى فتخصيصُ هذا النعاس بأنَّهُ من الله تعالى لا بدَّ منه من فائدة جديدة، وذكرُوا فيه وجوهاً : أولها : أن الخائف من عدوه خوفاً شديداً لا يأخذه النَّومُ، فصار حصول النَّومِ في وقت الخوفِ الشديد دليلاً على زوال الخوف وحصول الأمنِ.
وثانيها : أنَّهُم خافُوا من جهات كثيرة : قلة المسلمين، وكثرة الكُفَّارِ، وكثرة الأهبة، والآلة، والعدة للكافرين، والعطش الشديد، فلولا حصول النُّعاس، وحصول الاستراحة حتّضى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تمَّ الظفرُ.
وثالثها : أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو منهم، بل كان ذلك نعاساً يزيل الإعياء والكلالة بحيث لو قصدهم العدو لعرفوه، ولقدروا على دفعه.
٤٦٧