ومَزاحِف : جمع " مَزْحف " اسم المصدر.
قوله :﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾ مفعول :" تولُّوهم " الثَّاني هو " الأدْبار "، وكذا " دُبُره " مفعول ثان لـ :" يُولِّهِمْ " وقرأ الحسن : بالسُّكونِ كقولهم : عُنْق في عُنُق، وهذا من باب التَّعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ من فاعلها ؛ فأتى بلفظ الدُّبُر دُونَ الظَّهر لذلك، وبعضهم من أهل علم البيان سمَّى هذا النوع كنايةً، وليس بشيء.
قوله :" إلاَّ مُتَحرفاً " في نصبه وجهان :
٤٧٦
أحدهما : أنَّهُ حال.
والثاني : أنه استثناء وقد أوضح ذلك الزمخشري.
فقال :" فإن قلت : بِمَ انتصبَ :" إلاَّ مُتَحرِّفاً " ؟ قلتُ : على الحالِ و " إلاَّ " لغوٌ، أو على الاستثناءِ من المُولِّين : أي ومنْ يُولِّهم إلا رجلاً منهم مُتَحرفاً أو مُتَحيزاً ".
قال أبُو حيان :" لا يردُ بقوله " إلاَّ " لغوٌ أنَّها زائدةٌ، إنَّما يريد أنَّ العامل وهو " يُولِّهِمْ " وصل لِمَا بعدها كقولهم في " لا " من قولهم : جئت بلا زاد - إنَّها لغوٌ.
وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوف والتقدير : ومَنْ يُولِّهِم ملتبساً بأية حال إلاَّ من حال كذا، وإن لم تُقدَّرُ حالٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ " إلاَّ " لأن الشَّرط عندهم واجبٌ، والواجبُ حكمُهُ ألاَّ تدخل " إلاَّ " فيه لا في المفعول، ولا في غيره من الفضلات، لأنه استثناء مُفرغ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب، إنَّما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤوَّل ".
قال شهابُ الدِّينِ :" قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات، لا حاجة إليه لنَّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقاً، سواءٌ أكان ما بعد إلاَّ فضلةً أو عمدةً فذكرُ الفضلةِ والمفعول يوهم جوازه في غيرهما ".
وقال ابنُ عطيَّة :" وأمَّا الاستثناءُ فهو من المُولِّين الذين تتضمَّنهم " مَنْ " فجعل نصبه على الاستثناء ".
وقال جماعةٌ : إنَّ الاستثناءَ من أنوع التولِّي، ورُدَّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيبُ : إلاَّ تحيُّزاً أو تحرُّفاً، والتَّحيُّزُ والتَّحَوُّزُ : الانثمامُ، وتحوَّزت الحيَّة : انطوَتْ، وحُزْتُ الشَّيء : ضَمَمْتُهُ، والحَوْزَةُ : ما يَضُمُّ الأشياء، ووزنُ " متحيَّز " " مُتَفَيعِل " والأصل " مُتَحيْوِز " فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكُون فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الباء بعدها، كـ : مَيِّت، ولا يجوزُ أن يكون :" مُتفَعِّلاً " ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان " متحوِّزاً "، فأمَّا متحوِّز فـ " متفعِّل ".
فصل معنى الآية : إذا ذهبتم للقتال، فلا تولوهم الأدْبَارَ : أي لا تنهزموا، فتجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم ثم بيَّن أنَّ الانهزام محرم إلاَّ في حالتين : إحداهما : أن يكون مُتحَرّفاً للقتال، أي : أنه يجعل تحرفه أنه منهزم، ثم ينعطف عليه، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها.
يقال : تحرَّف وانحرف إذا زالَ عن وجهة الاستواء.
والثانية : قوله ﴿أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ﴾ والتَّحيز الانضمام كما تقدَّم، والفئة
٤٧٧
الجماعةُ، فإذا كان هذا المنهزم منفرداً، وفي الكفار كثرة، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة، وإن انضمَّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال، فربَّمَا وجب عليه التَّحيُّز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون جائزاً.
والحاصل أن الانهزام من العدو حرام، إلاَّ في هايتن الحالتين، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة ثمَّ قال تعالى :﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ إلاَّ في هاتين الحالتين ﴿فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ﴾ في الآخرة ﴿جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال : ١٦].
فصل قال أبو سعيد الخدري : هذا في أصحاب بدر خاصة ؛ لأن ما كان يجوز لهم الانهزام، لأن النبي ﷺ كان معهم، ولم يكن فئة يتحيّزون إليها دون النبي ﷺ وقد وعده الله بانّصر والظّفر فلم يكن لهم التحيّز إلى فئةٍ أخرى.
وأيضاً فإنَّ اللَّه شدد الأمر على أهل بدرٍ ؛ لأنه كان أول جهاد، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه، لزم منه الخلل العظيم.
فلهذا وجب التشديدُ والمبالغة، ومنع اللَّهُ في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى لهذا السَّبب، وهذا قول الحسنِ وقتادة والضحاك.
قال يزيدُ بن أبي حبيب : أوجب اللَّهُ النار لِمَنْ فَرَّ يوم بدر، فلمَّا كان يوم أحد قال :﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران : ١٥٥].
ثم كان يوم حنين بعده فقال :﴿ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾ [التوبة : ٢٥] ثم قال بعده ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ﴾ [التوبة : ٢٧].
وقال عبدُ الله بنُ عُمَرَ :" كُنَّا في جيش بعثنا رسول الله ﷺ، فحاص النَّاسُ حَيْصَةً،
٤٧٨


الصفحة التالية
Icon