والبيان على الثاني ؛ لأنَّ المعنى : لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم منكم أقبحْ من سائر النَّاسِ " يعني بالأولِ كونه جواباً للأمر، وبالثاني كونه نهياً بعد أمرٍ، وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهين دون الآخر، وكذا الثاني : نظرٌ، إذ المعنى يصح بأحد التقديرين مع التَّبعيض والبيان.
قوله :" خَاصَّةً " فيه ثلاثة أوجهٍ : أظهرها : أنها حالٌ من الفاعل المستكنِّ في قوله :" لا تُصيبَنَّ " وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره : إصابةً خاصة.
الثاني : أنَّها حالٌ من المفعولِ وهو الموصولُ، تقديره : لا تصيبنَّ الظَّالمين خاصة، بل تعمُّهم، وتعمُّ غيرهم.
الثالث : أنها حالٌ من فاعل " ظَلَمُوا " قاله ابن عطية.
قال أبو حيان :" ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ ".
قال شهابُ الدِّين :" ولا أدري ما عدمُ تعقُّله ؟ فإنَّ المعنى : واتقُوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا، ولا يظلم غيرهم، بمعنى : أنَّهم اختصوا بالظُّلْمِ، ولم يشاركهم فيه غيرهم، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها لهؤلاء، بل تصبهم، وتُصيبُ مَنْ لَمْ يظلم ألبتَّة، وهذا معنى واضح ".
فإن قيل : إنَّه تعالى خوَّفهم بعذابٍ لو نزل عمَّ المذنب، وغيره، وكيف يليقُ بالرحيم الحليمِ أن يوصل العذاب إلى من لم يذنب ؟ فالجوابُ : أنَّهُ تعالى قد ينزل الموت، والفقر، والعمى، والزمانة بعبده ابتداء، إمَّا لأنَّهُ يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكيَّةِ، أو لأنَّه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاة على اختلاف المذهبين.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٨٩
قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ الآية.
لمَّا ذكر أنَّه رزقهم من الطَّيبات، فههنا منعهم من الخيانةِ، واختلفوا في تلك الخيانةِ.
فقال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت في أبي لبابة حين بعثه رسولُ الله ﷺ إلى قريظة لمَّا حاصرهم وكان أهله وولده فيهم، فقالوا : ما ترى لنا، أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه، إنَّه الذبح فلا تفعلوا، فكان منه خيانة لله ورسوله.
وقال السديُّ " كانُوا يسمعون الشيء من النبي ﷺ فيفشونه ويبلغونه إلى المشركين فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ".
٤٩٦
وقال ابن زيد :" نَهاهُم الله أن يخُونُوا كما صنع المنافقون يظهورن الإيمان، ويسرون الكُفْرَ ".
وقال جابرُ بن عبد الله :" إنَّ أبا سفيان خرج من مكَّة فعلم النبي ﷺ خروجه، وعزم على الذهاب إليه، فكتب رجلٌ من المنافقين إليه أنَّ محمداً يريدكم، فخذوا حذركم فنزلت الآية ".
وقال الكلبيُّ والأصمُ والزهريُّ " نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكَّة لمَّا همَّ النبيُّ ﷺ بالخروج إليها ".
فصل قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ " الخيانة " في القرآن بإزاء خمسة معانٍ : الأول : أنَّ المراد بالخيانة : الذَّنب في الإسلام، كهذه الآية، لمَّا نزلت في أبي لبابة.
الثاني : الخيانة : السرقة، قال تعالى :﴿وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ [النساء : ١٠٥] نزلت في طعمة، لمَّا سرق الدرعين.
الثالث : نقض العهد، قال تعالى :﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ [الأنفال : ٥٨].
الرابع : الخيانة : المخالفة، قال تعالى :﴿فَخَانَتَاهُمَآ﴾ أي : خالفتاهما في الدين ؛ لأنه يروى أنه ما زنت امرأةٌ نبي قط.
الخامس : الخيانة : الزِّنا، قال تعالى :﴿وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يوسف : ٥٢] يعني : الزنا.
فصل قال القاضي :" الأقربُ : أنَّ خيانة الله غير خيانة رسوله، وخيانة الرَّسُولِ غير خيانة الأمانة ؛ لأنَّ العطف يقتضي المغايرة ".
وإذا عرف ذلك فنقول : إنَّه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم، وجعل ذلك خيانة للَّه ؛ لأنَّهُ خيانة لعطيته وخيانة لرسوله ؛ لأنه القيم بقسمها، فمن خانها فقد خان الرَّسُول، وهذه الغنيمة قد جعلها الله أمانة في أيدي الغانمين، وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة.
والوديعة أمانةٌ في يد المودع، فمن خان منهم فيها قد خان أمانة النَّاس.
إذ الخيانةُ ضد الأمانة.
قال : ويحتمل أن يريد بالإمانة كل ما تعبد به، وعلى هذا التقدير : فيدخل فيه
٤٩٧