المُكَّاء : فُعَّال، بناء مبالغةٍ ؛ قال أبو عبيدة :" يقال : مَكَا يَمْكُوا مُكُوّاً ومُكَّاءً : صَفَرَ، والمُكاء : بالضَّمِّ، كالبُكاءِ والصُّراخ ".
قال الزمخشريُّ :" المُكاء " : فُعال، بوزن : الثُّغَاء والرُّغَاء، من مَكَا يَمْكُوا : إذا صَفَر والمُكاء : الصَّفيرُ " ومنه : المُكَّاء : وهو طائر يألف الرِّيف، وجمعهُ المَكَاكِيُّ.
قيل : ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسر إلاَّ الغِنَاء، والنِّداء.
والتَّصدية فيها قولان : أحدهما : أنها من الصَّدى، وهو ما يُسْمع من رجع الصَّوْتِ في الأمكنة الخالية الصُّلبةِ يقال منه : صَدَى يصدي تصديةً، والمراد بها هنا : ما يسمع من صوت التَّصفيق بإحدى اليدينِ على الأخرى.
وقيل : هي مأخوذةٌ من التَّصدد، وهي الضَّجيجُ، والصِّياحُ، والتصفيق، فأبدلت إحدى الدَّالين ياءً تخفيفاً، ويدلُّ عليه قوله تعالى :﴿إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ [الزخرف : ٥٧] في قراءة من كسر الصَّاد، أي : يضجُّونَ ويلغطون، وهذا قول أبي عبيدة، وردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي، وقال : إنَّما هو مِن الصَّدْي، فكيف يُجعل من المضعَّف ؟ وقد ردَّ أبو عليّ على أبي جعفر ردَّهُ وقال " قد ثبت أنَّ يصُدُّونَ من نحو الصَّوْتِ، فأخذهُ منه، وتصدية : تَفْعِلَة " ثم ذكر كلاماً كثيراً.
والثاني : أنَّها من الصَّدِّ، وهو المنعُ ؛ والأصل : تَصْدِدَة، بدالين أيضاً، فأبدلت ثانيتهما ياء ويُؤيِّدُ هذا قراءةُ من قرأ " يَصُدُّونَ " بالضَّمِّ، أي : يمنعون.
وقرأ العَامَّةُ :" صلاتُهُم " رفعاً، " مُكَاءً " نَصْباً.
وأبان بن تغلب والأعمش وعاصم بخلاف عنهما :﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ﴾ نصباً،
٥١٠
" مُكَاءٌ " رفعاً وخطَّأ الفارسيُّ هذه القراءة، وقال : لا يجوزُ أن يُخْبَر عن النَّكرةِ بالمعرفةِ إلاَّ في ضرورة ؛ كقول حسَّانٍ :[الوافر] ٢٧٠٣ - كأنَّ سَبيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأسٍ
يَكُونُ مزاجَهَا عسلٌ ومَاءُ
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٩
وخرَّجها أبو الفتحِ على أنَّ " المُكَاء " و " التصدية " اسما جنس، يعني : أنَّهُمَا مصدران.
قال : واسم الجنْسٍ تعريفُه وتنكيرُهُ متقاربانِ، فلمَ يقالُ بأيِّهمَا جعل اسماً، والآخر خبراً ؟ وهذا يقرُب من المعرَّف بـ " أل " الجنسيَّة، حيث وُصِفَ بالجملة، كما يُوصَف به النكرة، كقوله تعالى :﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ [يس : ٣٧] ؛ وقول الآخر :[الكامل] ٢٧٠٤ - ولقد أمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ " لا يَعْنِينِي
وقال بعضهم : وقد قرأ أبو عمرو :" إلاَّ مُكاً " بالقصرِ والتنوين، وهذا كما قالوه : بُكاءً، وبُكّى.
بالمدِّ والقصر.
وقد جمع الشَّاعر بين اللغتين، فقال :[الوافر] ٢٧٠٥ - بَكَتْ عَيْنِي وحُقَّ لها بُكَاهَا
ومَا يُغْنِي البُكَاءُ ولا العَوِيلُ
٥١١

فصل قال ابن عبَّاسٍ " كانت قريش يطوفون بالبيت عُراة، يُصفرون ويصفِّقُون ".


وقال مجاهدٌ :" كانوا يعارضون النبي ﷺ في الطّواف ويتسهزئون به ويصفِّرون، ويصفِّقُونَ، ويخلطون عليه طوافه وصلاته ".
وقال مقاتلٌ :" كان النبي ﷺ إذَا صلَّى في المسجد الحرام، قام رجلان عن يمينه، ورجلان عن يساره يصفقون ليخلطوا على النبيِّ ﷺ صلاته، وهم من بني عبد الدَّارِ ".
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ :" التصديةُ : صدهم المؤمنين عن المسجد الحرامِ، وعلى هذا فـ " التَّصددةُ " بدالين، كما يقال : تظننت من الظن ".
فعلى قول ابن عباسٍ كان المكاءُ والتصديةُ نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقالت : كان إيذاءاً للنبي صلى الله عليه وسلم.
والأول أقرب، لقوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً﴾.
فإن قيل :" المُكَاءُ " و " التَّصديةُ " ليسا من جنس الصَّلاة، فكيف يجوزُ استثناؤهما من الصَّلاة ؟ فالجوابُ : من وجوه، أحدها : أنهم كانوا يعتقدون أنَّ المكاء والتصدية من جنس الصَّلاة، فحسن الاستثناء على حسب معقتدهم.
قال ابنُ الأنباري :" إنَّما سمَّاه صلاة ؛ لأنَّهُمْ أمروا بالصَّلاةِ في المسجدِ ؛ فجعلوا ذلك صلاتهم ".
وثانيها : أنَّ هذا كقولك : زرتُ الأمير ؛ فجعل جفائي صلتي، أي : أقام الجفاء مقام الصلة، كذا ههنا.
وثالثها : الغرضُ منه أن من كان المكاء والتَّصدية صلاته فلا صلاة له، كقول العربِ : ما لفلان عيب إلاَّ السخاء، أي : مَنْ كان السخاء عيبه فلا عَيْبَ فيه.
ثم قال تعالى ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾ أي : عذاب السيف يوم بدر، وقيل : يقال لهم في الآخرة ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٩


الصفحة التالية
Icon