٥٢٨
الرابع : أنَّهُ متعلِّق بـ " يَقْضِي " ذكره أبُو البقاءِ رحمه الله تعالى.
وقرأ الأعمشُ وعصمة عن أبي بكر عن عاصم " لِيَهْلَكَ " بفتح اللاَّم، وقياسُ ما مضى هذا " هَلِكَ " بالكسر، والمشهور إنما هو الفتح، قال تعالى :﴿إِن امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ [النساء : ١٧٦] ﴿حَتَّى إِذَا هَلَكَ﴾ [غافر : ٣٤].
قوله " مَنْ حَيَّ " قرأ نافعٌ وأبو بكر عن عاصم، والبزيُّ عن ابن كثير بالإظهار والباقون بالإدغام، والإظهارُ والإدغام في هذا النَّوْعِ لغتان مشهورتان، وهو كُلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة ؛ نحو :" حَيِيَ، وعَيِيَ "، ومن الإدغام قول المتلمِّس :[الطويل] ٢٧١٥ - فَهَذَا أوانُ العِرضْ حَيَّ ذُبابُه
..........................
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥١٦
وقال الآخرُ :[مجزوء الكامل] ٢٧١٦ - عَيُّوا بأمْرِهِمْ كَمَا
عَيَّتْ ببَيْضَتِهَا الحَمامَهْ
فأدغم " عَيُّوا "، وينُشدُ " عَيَّتْ، وعَييَتْ " بالإظهارِ والإدغام، فمن أظهر ؛ فلأنه الأصلُ ولأن الإدغامَ يُؤدِّي إلى تضعيف حرفِ العلَّةِ، وهو ثقيلٌ في ذاته ؛ ولأن الياء الأولى يتعينَّ فيها الإظهارُ في بعض الصُّورِ، وذلك في مضارع هذا الفعل ؛ لانقلاب الثَّانية ألفاً في يَحْيَا، ويَعْيَا، فحمل الماضي عليه طرداً للباب ؛ ولأنَّ الحركةَ في الثَّانية عارضةٌ ؛ لزوالها في نحو : حَيِيتُ، وبابه ؛ ولأنَّ الحركتين مختلفتان ؛ واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين.
قالوا وكذلك : لَحِحَت عينه وضببَ المكان، وألِلَ السِّقَاءُ، ومشِشَتْ الدَّابة.
قال سيبويه :" أخبرنا بهذه اللُّغةِ يونسُ " يعني بلغة الإظهار.
قال :" قد سمعت بعض العرب يقولُ : أحْيِيا، وأحْيِيَة، فيظهر ".
وإذا لم يدغم مع
٥٢٩
لزوم الحركةِ فمع عروضها أوْلضى، ومنْ أدغم فلاستثقال ظهور الكسرةِ في حرف يُجانسه ؛ ولأنَّ الحركة الثانية لازمةٌ لأنَّهَا حركةُ بناء، ولا يضُرُّ زوالها في نحو :" حَيِيْتُ "، كما لا يَضُرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح، نحو : حَلَلْتُ وظَللْتُ، وهذا كلَّه فيما كانت حركتُه حركة بناءٍ، ولذلك قُيِّد به الماضي.
أمَّا إذا كانت حركة إعراب فالإظهارُ فقط، نحو : لن يُحْيِي ولن يُعْيِيَ.
فصل قوله " عَن بيِّنَةٍ " متعلق بـ " يَهْلِكَ " و " يَحْيَا "، والهلاكُ، والحياةُ عبارةُ عن الإيمان والكفرِ، والمعنى : ليصدرَ كُفْرُ من كفر عن وضوحٍ وبيان، لا عن مُخالطةِ شبهة، وليصدر إسلامُ من أسلم عن وضوحٍ لا عن مُخالطة شبهة.
معنى الآية :" إذْ أنتُمْ " أي : اذكرُوا يا معشر المسلمين :﴿إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ أي : بشفير الوادي الأدنى من المدينة، والدُّنْيَا : تأنيثُ الأدْنَى، " وهُم " يعني : المشركين.
" بالعُدُوَةِ القُصْوَى " بشفير الوادي الأقصى من المدينة ممَّا يلي جانب مكَّة، وكان الماءُ في العدوة التي نزل بها المشركون، فكان استظهارهم من هذا الوجه أشد، " والرَّكْبُ " العير التي خرجوا إليها :" أسْفَلَ مِنكُمْ " أي : في موضع أسفل إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر.
" ولوْ توَاعَدتُّمْ " أنتم، وأهل مكَّة " لاخْتَلَفْتُمْ " لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم، وكثرتهم، أول أن المسلمين خرجوا ليأخُذُوا العير، وخرج الكفَّارُ ليمنعوها، فالتقوا على غير ميعاد، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، لنصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾.
وذلك أن عسكر الرسول ﷺ في أول الأمر، كانوا في غاية الضَّعْفِ والخوف بسبب القلَّةِ، وعدم الأهبة، ونزلُوا بعيداً عن الماءِ، وكانت الأرض الَّتي نزلُوا فيها رَمْلاً تغوصُ فيه أرجُلُهُمْ، والكُفَّارُ كانوا في غاية القُوَّةِ، لكثرتهم في العدد والعدة، وكانوا قريباً من الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها صالحة للمضي، والعير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقَّعُون مجيء المدد ساعةً فساعةً، ثُمَّ إنَّه تعالى قلب القصَّة، وجعل الغلبة للمسلمين، والدَّمار على الكافرين، فصار ذلك من أعظم المعجزات، وأقوى البيِّنات على صدق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر.
وقوله :﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ﴾ إشارة إلى هذا المعنى، وهو أنَّ الذين هلكوا إنَّما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة، والمراد من البيِّنةِ : المعجزة، ثم قال :﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي : يسمع دعاءكم، ويعلم حاجتكم وضعفكم ويصلح مهمكم.
قوله :[إذ يريكهم الله في منامك قليلا].
٥٣٠


الصفحة التالية
Icon