ذلك، ويدُلُّ على الثاني قراءة عيسى بن عمر " ويَذْهَبْ " بياء الغيبة وحزمه، ونقل أبو البقاء قراءة الجزم ولم يُقيِّدها بياء الغيبة.
وقرأ أبُو حيوة وأبان وعصمة " ويَذْهَبَ " بياء الغيبة ونصبه.
وقرأ الحسنُ " فَتَفْشِلُوا " بكسر الشين، قال أبو حاتمٍ :" هذا غيرُ معروفٍ " وقال غيره : إنَّها لغةٌ ثانية.
فصل احتجَّ نُفاة القياسِ بهذه الآية فقالوا : القياس يفضي إلى المنازعةِ، والمنازعةُ محرَّمةٌ بهذه الآية ؛ فوجب أن يكون العمل بالقياس محرماً ببيان الملازمة، فإنّا نشاهد الدُّنيا مَمْلُوءةً من الاختلافات بسبب القياس.
وأيضاً القائلون بأنَّ النَّص لا يجوز تخصيصه بالقياس تَمَسَّكُوا بهذه الآية، وقالوا : قوله تعالى :﴿وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نصَّا عليه، ثم أتبعه بقوله :﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ ومَنْ تمسَّك بالقياس المخصص بالنَّصِّ فقد ترك طاعة اللَّهِ وطاعة رسوله، وتمسَّك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل، وكلُّ ذلك حرام.
والجوابُ : بأنَّهُ ليس كلُّ قياس يوجب المنازعة.
قوله :" ولا تنَازَعُوا " معطوف على قوله :" فاثْبُتُوا " وهو جواب الشَّرطِ في قوله :﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً﴾ فالمحرَّم التنازع عند لقاء فئة الكُفَّارِ، فلا حجة فيها، وأيضاً : فقد ترتَّب على التنازع الفشل وذهاب الريح التي هي الدولة، وذلك لا يترتَّب على القياس.
ثم قال :﴿وَاصْبِرُوا ااْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ والمقصودُ أنَّ كمال أمر الجهادِ مبنيٌّ على الصَّبْرِ فأمرهم بالصبر.
كما قال في آية أخرى :﴿اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ﴾ [آل عمران : ٢٠٠].
عن سالم أبي النضر مولى عُمَر بن عُبيدِ اللَّهِ وكان كاتباً له، قال : كتب إليه عبدُ الله بن أبِي أوفَى " أنَّ رسول الله ﷺ في بعض أيَّامِهِ الَّتي لقيَ فيها العَدُو، انتظر حتَّى مالتِ الشَّمْسُ، ثمَّ قام في النَّاس، فقال :" يا أيُّهَا النَّاسُ لا تَتمنوا لقاء العدُوّ، وأسْألُوا اللَّهَ العَافيةَ فإذا لقِيتُمُوهم فاصْبِرُوا، واعلَمُوا أنَّ الجنَّة تحتَ ظلالِ السُّيُوفِ " ثم قال :" اللَّهُمَّ مُنزلَ الكتابِ، ومُجْرِي السَّحابِ، وهازِمَ الأحْزابِ، اهزمْهُمْ، وانْصُرْنا عليْهِمْ "
٥٣٥
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٣٣
قوله تعالى :﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
نزلت في المشركين حين أقْبَلُوا إلى بدر، ولهم بغي وفخرٌ.
فقال رسولُ الله ﷺ " اللهم هذه قريشٌ قد أقبلت بخيلائها، وفخرها تُجادل وتُكذِّب رسولك، اللَّهُمَّ فنصرك الذي وعدتني ".
ولمَّا رأى أبُو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش إنكم إنَّما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجَّاها اللَّهُ، فارجعوا، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتَّى نردَ بَدْراً - فننحر الجزور، ونطعم الطَّعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيانُ، وتسمع بنا العربُ، فلا يزالُونَ يهابوننا أبَداً.
فوافوها فَسُقُوا كئوس المنايا مكان الخمر، وناحَتْ عليهم النَّوائحُ مكان القيان، فنهى اللَّهُ تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النِّية، والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه.
واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء : أحدها : البطر.
قال الزَّجَّاجُ : البَطَرُ : الطغيان في النعمة وترك شكرها.
وثانيها : الرِّئاءُ، وهو أظهار الجميل ليرى، مع أنَّ باطنهُ يكون قبيحاً.
والفرق بينه وبين النفاق : أنَّ النفاق : إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرئاء : إظهار الطَّاعة مع إبطان المعصية.
٥٣٦


الصفحة التالية
Icon