فَمَنْ ذكَّر فللفصل بين الفعل وفاعله بقوله :" مِنكُمْ " ؛ لأنَّ التأنيث مجازي، إذ المراد بـ " المائة " الذُّكور، ومنْ أنَّثَ فلأجل اللفظِ، ولم يلتفت للمعنى، ولا للفصل.
وأمَّا أبو عمرو فإنَّما فرٌَّ بين الموضعين فذكَّر في الأول، لما ذكر ؛ ولأنَّهُ لحظ قوله :" يغلبوا " وأنَّثَ في الثاني، لقوة التأنيث بوصفه بالمؤنث في قوله :" صَابِرَةٌ "، وأمَّا :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ﴾ و ﴿وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ﴾ فبالتذكير عند جميع القرَّاء، إلاَّ الأعرج، فإنه أنَّثَ المسند إلى " عشرون ".
فصل هذا خبرٌ والمراد به الأمر، كقوله تعالى :﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة : ٢٣٣].
والمعنى :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ فليصبروا وليجتهدوا في القتالِ حتَّى " يَغلبُوا مائتيْنِ " ويدلُّ على أن المراد الأمر وجوه.
أولها : لو كان المرادُ الخبر، لزم أن يقال لم يغلب قط مائتان من الكُفَّارِ عشرين من المؤمنين، وذلك باطل.
وثانيها : قوله تعالى :﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ نسخ والنسخُ لا يليق إلاَّ بالأمر.
وثالثها : قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ وذلك ترغيب في الثبات على الجهادِ.
فصل قوله تعالى :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ يدُلُّ على أنَّهُ تعالى ما أوجبَ هذا الحكم إلاَّ بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك، وإنَّما حصل هذا الشَّرط عند حصول أشياء.
منها : أن يكون شديد الأعضاء، قوياً جلداً، وأن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان، وأن يكون غير متحرّفٍ إلاَّ لقتال أو متحيزاً إلى فئة ؛ فعند حصول هذه الشرائط كان يجبُ على الواحد أن يثبتَ للعشرةِ.
وإنَّما حسن هذا التكليف ؛ لأنه مسبوق بقوله :﴿حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال : ٦٤] فلمَّا وعد المؤمنين بالكفاية والنُّصرةِ كان هذا التكليف سهلاً ؛ لأنَّ من تكفَّل بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه.
فإن قيل : هذه الآية تدلُّ على جوب ثبات الواحد للعشرة، فما الفائدة في العدولِ عن هذه اللَّفظةِ الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة ؟.
والجوابُ : أن هذا الكلام إنَّما ورد على وفْق الواقعة ؛ لأنَّ رسول الله ﷺ كان يبعث السَّرايا، والغالبُ أن تلك السَّرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيدُ على المائة فلهذا ذكر الله هذين العددين.
٥٦٤
قوله :﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ وهذا كالعَّة لتلك الغلبة ؛ لأنَّ من لا يؤمنُ باللَّهِ ولا يؤمنُ بالمعاد، فالسعادةُ ليست عنده إلاَّ هذه الحياة الدنيويَّة، ومن كان هذه معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال.
وأمَّا من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة وأنَّ السعادة لا تحصل إلاَّ في الدَّار الآخرة، فإنَّه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا، ولا يقيم لها وزناً، فيقدم على الجهاد بقلب قوي عزم صحيح، وإذا كان الأمر كذلك، كان الواحد في الثبات يقاوم العدد الكثير.
وأيضاً : فإن الكُفَّار إنَّما يعولُون على قوتهم وشوكتهم، والمسلمون يستغيثون بربهم بالدعاء، والتضرع، ومنْ كان كذلك كان النصر الظفر به أليق وأولى.
فصل كان هذا يوم بدر فرض الله على الرَّجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين، فخفَّف اللَّهُ عنهم فقال :﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾ في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف.
وقرأ المفضل عن عاصم " وعُلِمَ " مبنياً للمفعول، و ﴿أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾ في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل، وهو في محلِّ نصبِ على المفعول به في قراءة العامة ؛ لأن فاعل الفعل ضميرٌ يعودُ على اللَّهِ تعالى.
قوله :" ضَعْفاً " قرأ عاصم وحمزة هنا، وفي الرُّوم في كلماتها الثلاث ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً﴾ [الروم : ٥٤] بفتح الضاد والباقون بضمها.
وعن حفص وحده خلافٌ في الروم.
وقرأ عيسى بن عمر :" ضُعُفاً " بضم الضاذ والعين وكلها مصادر.
وقيل : الضَّعْفُ - بالفتح - في الرأي والعقل، وبالضم في البدن.
وهذا قول الخليل بن أحمد، هكذا نقله الراغب عنه.
ولمَّا نقل ابنُ عطية هذا عن الثعلبي، قال :" وهذا القول تردُّه القراءة ".
وقيل : هما بمعنى واحد، لغتان : لغةُ الحجاز الضَّمُّ، ولغةُ تميم الفتح، نقله أبو عمرو، فيكونان كـ : الفَقْر والفُقْر، والمَكْث والمُكْث، والبَخَل والبُخْل.
وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر " ضُعَفَاء " جمعاً على " فُعَلاءَ " كـ " ظَرِيف وظُرفُاء.
٥٦٥


الصفحة التالية
Icon