ووجه قول أبي حنيفةَ : أنَّ حرمة اليوم ساقطة عند الله - عزَّ وجلَّ -، فصادق الهَتْكَ محلاًّ لا حرمةَ له في عِلْمِ اللَّه تعالى، كما لو قصد وطء امرأة زُفَّت إليه، وهو يعتقدُ أنَّها ليست بزوجةٍ له فإذا هي زوجته ".
قال القرطبيُّ :" وهذا أصحُّ ".
وقال ابن جريح :" لولا كتابٌ من اللَّهِ سبقَ " أنَّهُ لا يضلُّ قوماً بعد إذْ هداهم حتَّى يبين لهم ما يتقون، وأنَّهُ لا يأخذ قوماً فعلوا شيئاً بجهالة، وأنَّهُ لا يعذب إلا بعد النهي، لعذبكم فيما صنعتم، وأنَّهُ تعالى ما نهاهم عن أخْذِ الفداءِ.
وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لانَّا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شعري يوجب حرمة ذلك افداء.
فهل حصل دليل عقليّ يقتضي حرمته أم لا ؟ فإن قلنا : حصل، فيكون اللَّهُ تعالى قد بيَّن تحريمه بواسطة ذلك الدَّليل العقلي، فلا يمكن أن يقال : إنَّهُ تعالى لم يُبيَِّن تلك الحرمة، وإن قلنا : إنه ليس في العقل ولا في الشَّرع ما يقتضي المنع ؛ فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً وإذا كان الإذن حاصلاً فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله ؟ وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير :﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ أنَّهُ لا يعذِّب أحداً شهد بدراً مع النبيِّ ﷺ، وهذا أيضاً مشكلٌ ؛ لأنَّهُ يقتضي أن يقال : إنهم ما منعُوا عن الكُفْرِ والمعاصي والزِّنا والخمر، وما هددوا بترتيب العذابِ على هذه القبائح، وذلك يوجبُ سقوط التَّكاليف عنهم، ولا يقوله عاقل، وأيضاً فلو كان كذلك، فكيف أخذهم اللَّهُ في ذلك الموضع بِعَيْنه في تلك الواقعةِ بعينها ؟ قال ابنُ الخطيب :" واعلمْ أنَّ النَّاس أكثروا فيه، والمعتمد في هذا الباب أن نقول : أمَّا على قول أهل السنة : فيجوز أن يعفُو اللَّهُ عن الكبائر.
فقوله ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمَسَّهُم عذاب عظيم، وهذا هو المراد من قوله ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام : ٥٤] وقوله " سبقت رحمتي غضبي ".
وأمَّا على قول المعتزلة : فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر، فكان معناه ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ في أنَّ من احترزَ عن الكبائر صارت صغائره مغفورة، وإلاَّ لمسَّهُم عذابٌ عظيمٌ، وهذا الحكمُ وإن كان ثابتاً في حقِّ جميع المسلمين، إلاَّ أنَّ طاعات أهل بدر كانت عظيمة، وهو قبولهم الإسلام، وانقيادهم لمحمَّدٍ، وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال : إنَّ الثَّواب الذي استحقُّوهُ على هذه الطاعات كان أزيدَ
٥٧٣
من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب، لا جرمٍ صار هذا الذنب مغفوراًن ولو قدّرْنا صدور هذا الذنب من المسلمين، لما صار مغفوراً، فبسبب هذا القدر من التفاوت، حصل لأهْلِ بدر هذا الاختصاص ".
قال ابن إسحاق : لم يكن من المؤمنين أحدٌ ممَّن حضر إلاَّ أحبَّ الفداء، إلاَّ عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسُول الله ﷺ بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال : يا نَبِيَّ الله الإثْخَان في القَتْلِ أحب إليَّ من استبقاءِ الرِّحالِ، فقال رسولُ الله ﷺ " لو نزل من السَّماءِ عذابٌ لما نَجَا منه غير عمر بن الخطاب، وسعد بن معاذ " قوله تعالى :﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً﴾ الآية.
روي أنهم أمسكوا أيديهم عمَّا أخذُوا من الفداء، فنزلت هذه الآية.
فإن قيل : ما معنى " الفاء " في قوله :" فَكُلُوا " ؟ فالجوابُ : التقدير قد أبحت لكم الغنائم فكلوا.
و " مَا " يجُوزُ أن تكون مصدرية، والمصدرُ واقعٌ موقع المفعول، ويجوزُ أن تكون بمعنى " الَّذي " وهو في المعنى كالذي قبله، والعائد على هذا محذوف.
وقوله :" حَلاَلاً " نصبٌ على الحَالِ، إمَّا من ما الموصولةِ، أو من عائدها إذَا جعلناها اسمية.
وقيل : هو نعتُ مصدرٍ محذوف، أي : أكْلاً حلالاً.
وقوله :" واتَّقُوا " قال ابنُ عطية :" وجاء قوله :" واتَّقُوا اللَّهَ " اعتراضاً فصيحاً في أثناء القولِ ؛ لأنَّ قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ متصلٌ بقوله :﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾ يعني : أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له.
والمعنى : واتقوا اللَّهَ ولا تُقْدِمُوا بعد ذلك على المعاصي واعلموا أنَّ اللَّه غفور لما أقدمتم عليه من الزلة ".
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٦٨
قوله تعالى :﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى ﴾ الآية.
لمَّا أخذ الفداء من الأسارى، وشق عليهم أخذ أموالهم، ذكر اللَّهُ تعالى هذه الآية استمالة لهم.
قوله :" مِنَ الأسْرَى " قرأه أبو عمرو بزنة " فُعَالى " والباقون بزنة " فَعْلضى " وقد عُرِفَ ما فيهما.
٥٧٤


الصفحة التالية
Icon