و " أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ " ظرف لـ " سِيحُوا "، وقرىء " غَيْرُ مُعْجِزي اللهَ " بنصب الجلالةِ على أنَّ النون حُذفتْ تخفيفاً، وقد تقدَّم تحريره.
فصل المعنى : قال لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين :﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا ااْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ أي : غير فائتين ولا سابقين :﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ أي : مذلهم بالقتال في الدُّنيا والعذاب في الآخرة.
واختلفوا في هذه الأشهر الأربعة، فقال الزهريُّ :" إن براءةَ نزلت في شوال، وهي أربعة أشهر : شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم "، والصَّواب الذي عليه الأكثرون : أنَّ ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه إلى عشرين من ربيع الآخر، ومن لم يكن له عهد، فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك خمسون يوماً، وقيل : ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول ؛ لأنَّ الحجَّ في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النَّسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السَّنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع ويدلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام :" ألا إنَّ الزَّمَانَ قَد اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَق اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْض ".
فصل اختلف العلماء في هذا التأجيل، وفي هؤلاء الذين برىء الله ورسوله من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال جماعة : هذا تأجيلٌ للمشركين، فمن كانت مدةُ عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر، ثمَّ هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله، فيقتل حيثُ يدرك ويؤسر إلاَّ أن يتوب.
وقال الكلبيُّ : إنما كانت الأربعةُ أشهر من كان له عهد دون أربعة فأتموا له أربعة أشهر، فأمَّا من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله :﴿فَأَتِمُّوا ااْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾.
قال الحسنُ " أمر الله رسوله ﷺ بقتال مَنْ قاتله من المشركين، فقال :﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة : ١٩٠] وكان لا يقاتلُ إلاَّ من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم، وأجلهم أربعة أشهر، فلم يكن لأحدٍ منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة، ولا من لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل ".
والمقصود من هذا الإعلام أمور : أولها : أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر، ويعلموا أنَّه ليس لهم بعد هذه المدة إلاَّ أحد أمور ثلاثة : إمَّا الإسلامُ أو قبول الجزية أو السيف، فيصير ذلك حاملاً لهم على الإسلام.
وثانيها : لئلاَّ ينسب المسلمون إلى نكث العهد.
وثالثها : أراد اللهُ أن يعمَّ جميع المشركين بالجهاد، فعمَّ الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار، ولا يصحُّ ذلك إلا بنقض العهود.
ورابعها : أراد النبي ﷺ أن يحج في السَّنة الآتية، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلاَّ يشاهدة العراة، وقيل : نزل هذا قبل تبوك.
وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكَّة.
وذلك أنَّ رسول الله ﷺ عاهد قريشاً عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعةُ في عهد النبي ﷺ، ثم عدتْ بنو بكر على خزاعة فنالت منها، وأعانتهم قريش بالسِّلاح فلمَّا تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، ونقضوا العهد، خرج عمرو بن سالم الخزاعيُّ، حتى وقف على رسول الله ﷺ فقال :[الرجز] ٢٧٤٣ - لا هُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداَ
حِلْفَ أبينَا وأبيهِ الأَتْلَدَا
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٦
كنتَ لَنَا أباً وكُنَّا وَلَدَا
ثُمَّتَ أسلَمْنَا ولمْ نَنْزِعْ يَدَا
فانصُرْ هَداكَ اللهُ نَصْراً أبَدَا
وادْعُ عِبَادَ اللهِ يأتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا
فِي فَيْلقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبدَا
أبْيَضَ مثلَ الشَّمسِ يَسْمُو صَعدَا
إن سيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَربَّدَا
إنَّ قُريشاً أخلفُوكَ المَوْعِدَا
ونَقَضُوا ميثاقَك المُؤكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بالهَجيرِ هُجَّدَا
وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا
وزعَمُوا أنْ لسْتَ تَدْعُو أحَدَا
وهُمْ أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدَا


الصفحة التالية
Icon