وهو أنَّهُ جعله ممَّا حذف فيه الحرفُ اتِّساعاً، لا على الظرف، لأنه ظرف مكان مختص.
قال أبو حيَّان " إنه ينتصبُ على الظرف ؛ لأنَّ معنى " واقعُدُوا " لا يراد به حقيقةُ القعود، وإنما يراد : ارصدوهم، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة، ومتى أتفقا في المادة لفظاً، أو معنًى، وصل إليه بنفسه، تقول : جلست مجلس القاضي، وقعدت مجلس القاضي، والآيةُ من هذا القبيل ".
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر، وهو " على "، أي : على كلِّ مرصد قاله الأخفشُ، وجعله مثل قول الآخر :[الطويل] ٢٧٤٦ - تَحِنُّ فتبدي مَا بِهَا مِنْ صبابَةٍ
وأخْفِي الذي لَوْلاَ الأسَى لَقَضانِي
وهذا لا ينقاس، بل يقتصر فيه على السَّماع، كقوله :﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ﴾ [الأعراف : ١٦]، أي : على صراطك، اتفق الكل على تقدير " على "، وقال بعضهم : هو على تقدير الباء، أي : بكل مرصد، نقله أبو البقاء، وحينئذٍ تكون الباء بمعنى " في " فينبغي أن تقدَّر " في " لأنَّ المعنى عليها ؛ وجعله نظير قول الشاعر :[الوافر] ٢٧٤٧ - نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيَافِ نَاسِياً
أنَّ المنيَّةَ للْفَتَى بالمَرْصَدِ
والمِرْصَادُ : المكانُ المختص بالترصُّد، والمرصد : يقع على الرَّاصد، سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً، وكذلك يقع على " المرصُودِ ".
وقوله تعالى :﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾ [الجن : ٢٧] يحتمل كلَّ ذلك ؛ وكأنَّهُ في الأصل مصدر، فلذلك التزم فيه الإفرادُ والتذكيرُ.
١٨
ومعنى الآية : اقعدوا لهم على كلِّ طريق - والمرصدُ : الموضعُ الذي يرقب فيه العدو يريد : كونُوا لهم رصداً، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا.
قوله :﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ أي : دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم، ويدخلوا مكَّة " إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " لمن تاب " رَحيمٌ " به.
واحتجُّوا بهذه الآية على قتل تارك الصَّلاة ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباح دم الكفَّار مطلقاً ثم حرَّمها عند التوبة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد الثلاثة، فإباحة الدَّم بحالها.
قال الحسينُ بن الفضلِ :" هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصَّبر على أذى الأعداء ".
قوله تعالى :﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ الآية.
روى ابن عباس : أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجة أخرى، فهل نقتل ؟ فقال عليٌّ - رضي الله عنه - :" لا " لأنَّ الله قال :﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ أي : فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ.
فتقرير النظم : أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه، بل يطالب إمَّا بالإسلام، وإمَّا بالقتل، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة، أو طالباً لاستماع القرآن، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله.
قوله :﴿وَإِنْ أَحَدٌ﴾ كقوله ﴿إِن امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ [النساء : ١٧٦] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور.
قال ابنُ الخطيب :" أَحَدٌ " مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ، وتقديره :" وإن استجارك أحد، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء، لأنَّ " إنْ " من عوامل الفعل لا تدخل على غيره ".
قوله " حتَّى يسمَعَ " يجوز أن تكون هنا للغاية، وأن تكون للتَّعليلِ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله " فَأجِرهُ "، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا ؟ وفيه غموضٌ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق " حتَّى " بقوله " استجاركَ "، أو بقوله " فأجرهُ " إذ يجوز تقديره : وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ، حتَّى
١٩
يسمع كلام الله.
والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع، وأعملنا الأوَّل مثلاً، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ " حتَّى " تجرُّ المضمر، و " حتَّى " لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله :[الوافر] ٢٧٤٩ - فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ
فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ١٦


الصفحة التالية
Icon