هذا الشَّرط : أنَّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مُخْلصاً، بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره، فبيَّن أنَّهُ لا بد وأن يأتُوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن الرياءِ، والنفاقِ، والتَّودُّدِ إلى الكفار.
والمقصودُ : بيان أنَّه ليس الغرضُ منه إيجاب القتالِ فقط، بل الغرض أن يُؤتَى به انقياداً لأمر اللهِ، ولحكمه وتكليفه، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذٍ يحصل به الانتفاع.
قوله :﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ الحسنُ " بِمَا يَعْملُون " بالغيبةِ على الالتفات ؛ وبها قرأ يقعوبُ في رواية سلاَّم، أي : عالم بنياتهم، وأغراضهم، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ.
قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ الله لا يَرْضَى أن يكون الباطنُ خلاف الظَّاهِرِ، ولا الظَّاهر خلاف الباطن، وإنَّما يريدُ من خلقه الاستقامة، كما قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ﴾ [فصلت : ٣٠]، قال : ولمَّا فرض القتالُ، تميَّز المنافقُ من غيره، وتميَّز من يوالي المؤمنين ممَّن يعادِيهمْ.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٣١
قوله تعالى :﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ الآية.
اعلم أنَّهُ تعالى بَدَأ السُّورة بذكر البراءة من الكُفَّار، وبالغ في ذلك، وذكر من أنواع قَبَائِحِهمْ مَا يوجب تلك البراءةَ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أنَّ هذه البراءة غير جائزةٍ، وأنَّهُ يجبُ مخالطتهم ومناصرتهم، فأولها هذه الآية، وذلك أنَّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدةٍ توجبُ مخالطتهم ومعاونتهم، ومناصرتهم، ومن جملةِ تلك الصِّفات، كونهم عامرين للمسجدِ الحرامِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ : لمَّا أسر العبَّاسُ يوم بدرٍ، وعيَّرَهُ المسلمون بالكُفرِ، وقطيعة الرَّحمِ، وأغلظ له عليٌّ القول، فقال العبَّاسُ : ما لكم تذكرون مساوئنا، ولا تذكرون محاسننا ؟ فقال له عليٌّ : ألكُم محاسن ؟ فقال : نعم، إنَّا لنعْمُرُ المسْجِدَ الحَرامَ، ونحجب الكَعْبَة، ونسْقِي الحاجَّ، ونفكُّ العاني ؛ فأنزل اللهُ تعالى ردّاً على العبَّاسِ :﴿مَا كَانَ
٤٢
لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ أي : ما ينبغي للمشركين أن يعمرُوا مساجد الله، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك ؛ لأنَّ المساجد تعمر لعبادة ا لله وحده.
واعلم أنَّ عمارة المَسْجِد قسمان : إمَّا بلزومها وكثرة إتيانها، يقال : فلان يعمرُ مجلس فلان إذا كثر غشيانه، وإمَّا بالعمارة المعروفة بالبناء، فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنَّه ليس للكافر أن يقدم على مرمَّةِ المسجد، لأنَّ المسجد موضع العبادة، فيجب أن يعظم، والكافرُ يهينه، وأيضاً فالكافرُ نجس في الحكم، لقوله تعالى :﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة : ٢٨]، وتطهير المسجد واجبٌ، لقوله تعالى :﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ [البقرة : ١٢٥]، وأيضاً فالكافرُ لا يحترز من النَّجاسة، فدخوله المسجد تلويث للمسجد، وقد يؤدّي إلى فسادِ عبادة المصلين.
وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المُصلين، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنّة على المسلمين، وقد ذهب جماعةٌ منهم الواحديُّ ؛ إلى أنَّ المُرادَ منه : العمارة المعروفة من بناء المسجدِ، ومرمته عند الخراب، فيمنع منه الكافر، حتى ولو أوصى بها لم تقبل، ويمنع من دخول المساجدش، وإن دخل بغير إذن استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيمُ المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسولُ الله ﷺ وفد ثقيف في المسجد وهم كفَّار، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد، وهو كافر، وحمل بعضهم العمارة على المسجد على الوجه الأول.
" أَن يَعْمُرُواْ " اسم " كان ".
قرأ ابنُ السميفع " يُعْمِرُوا " بضم الياء وكسر الميم، من :" أعمر " رباعياً، والمعنى : أن يعينوا على عمارته.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو " مسجد اللهِ " بالإفراد، وهي تحتملُ وجهين، أن يُراد به مسجدق بعينه، وهو المسجد الحرام، لقوله ﴿وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [التوبة : ١٩]، وأن يكون اسم جنسٍ، فيندرج فيه سائر المساجد، ويدخل المسجدُ الحرامُ دخولاً أوليّاً وقرأ الباقون :" مَساجِد " بالجمع، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين، ووجه الجمع إمَّا لأنَّ كُلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يقال لها : مسجدٌ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد، فصَحَّ أن يُطْلقَ عليه لفظُ الجمع لذلك.
[قال الفرَّاءُ : ربما ذهب العربُ بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى إلى الرجل يركب البرذون ؛ فيقول : أخذت في ركوب البراذين، وفلان يجالس الملوك، وهو لا يجلس إلا مع ملك واحد، ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار يريد : الدراهم والدنانير].
٤٣