الأول : أنَّ المشركين كانوا يقولون : إنَّ محمداً إنَّما ادَّعى الرِّسالةَ طلباً للرئاسة، فذكر ههنا الإيمان باللهِ واليوم الآخر، وترك ذكر النُّبوةِ، كأنه يقولُ : مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصليّ، وحذف ذكر النبوة، تنبيهاً للكفار على أنَّه لا مطلوب له من الرسالة إلاَّ هذا القدر.
الثاني : أنه لمَّا ذكر الصَّلاة، والصلاة لا تتم إلاَّ بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة، فكان كافياً.
الثالث : أنَّه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فكان ذكر الصَّلاة دليلاً على النبوة، وأمَّا قوله " وأَقَامَ الصَّلاةَ " فلأنَّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة، وأمَّا قوله " وآتَى الزَّكاةَ " فلأنَّ الإنسانَ إذا كان مقيماً للصلاة، فإنَّه يحضرُ في المسجد، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين، لطلب أخذ الزَّكاةِ، فتحصُل عمارة المسجد، وإن حملنا العمارة على البناء، فلأن الظَّاهرَ أنَّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجداً.
وأما قوله ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ أي : لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله.
روي أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث، وإصلاح مهمات الدنيا.
قال عليه الصلاة والسلام :" يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً، ذكرُهُم الدُّنْيَا، وحُبُّ الدُّنْيَا، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة " وقال عليه الصلاة والسلام " الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش "، وقال عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى :" إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ "، وقال عليه الصلاة والسلام " مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ
٤٦
الله "، وقال عليه الصلاة والسلام " إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان "، وقال عليه الصلاة والسلام " مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلك المسْجدِ ضَوؤهُ "، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ.
قوله :﴿فَعَسَى أُوْلَـائِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ قال المفسرون :" عسى " من الله واجب، لكونه متعالياً عن الشّك والتردد.
وقال أبو مسلم :" عسى " ههنا راجع إلى العباد، وهو يفيدُ الرجاء، فكان المعنى : إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء، لقوله تعالى :﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ [السجدة : ١٦] والتحقيق فيه : أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب ؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول، وقال الزمخشريُّ " المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها ".
فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين " لَعَلَّ " و " عَسَى "، فما بالُ هؤلاء المشركين، يقطعون بأنَّهم مهتدون، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٤٢
قوله تعالى :﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ الآية.
الجمهور على قراءة " سِقايةَ "، و " عِمارةَ " مصدرين على " فِعالةٍ "، كـ : الضِّيافة، والوِقاية والتِّجارة، ولم تقلب الياء همزة، لتَحصُّنها بتاء التأنيث، بخلاف " رِدَاءة،
٤٧


الصفحة التالية
Icon