والتقدير : لا يريد إلا أن يتمَّ نوره، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة، وهي المنع والامتناع.
والدليل عليه قوله عليه السلام :" وإذا أرادوا ظلمنا أبينا " فامتدح بذلك، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم ؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف.
وقال الزَّجاج " إنَّ المستثنى منه محذوفٌ، تقديره : ويَأبَى أي : ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره " وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال :" يَأبَى بمعنى : يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لما فيه من معنى النَّفْي، والتقدير : يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره ".
أي : يعلي دينه ويظهر كلمته، ويتم الحق الذي بعث به محمداً ﷺ :﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾.
يعني : الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه، هو الذي أرسل رسوله محمداً :" بالهُدَى "، أي : القرآن، وقيل : ببيان الفرائض " ودين الحقِّ " وهو الإسلام، " لِيُظهِرَهُ " ليعليه وينصره، ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ على سائر الأديان كلها ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ فإن قيل : ظاهر قوله ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان، وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة.
فالجواب من وجوه : أحدها : قال ابن عباسٍ " الهاءُ في " لِيُظهِرَهُ " عائدة إلى الرسول ﷺ أي : ليعلمه شرائع الدِّين كلها، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء ".
وثانيها : قال أبو هريرة والضحاك : هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ في نزول عيسى قال :" ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام ".
وروى المقدادُ قال : سمعتُ رسول الله ﷺ يقولُ :" لا يَبْقَى على ظهْرِ الأرض بيتُ مدر ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ الله كلِمَة الإسلام، بِعِزِّ عزيز، أو بذُلِّ ذليلٍ، إمَّا أن يُعزَّهمُ اللهُ فيجعلهُمْ من أهْلِهِ فيعزُّوا بهِ، وإمَّا أن يُذلَّهُمْ فيَدِينُون لَهُ ".
٧٦
وقال السديُّ : ذلك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلاَّ دخل في الإسلام، أو أدَّى الخراج.
وثالثها :﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ في جزيرة العربِ، وقد حصل ذلك، فإنَّه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكُفَّارِ.
ورابعها : أنَّهُ لا يدين يخالف دين الإسلام، إلاَّ وقد قهرهم المسلمون، وظهروا عليهم في بعض المواضع، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم، فقهروا اليهُود، وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرُّوم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممَّا يلي الترك والهند.
وخامسها :﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ بالحُجَّةِ والبيانِ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله، والقوة بالحُجَّة والبيان كانت حاصلة من أوَّلِ الأمْرِ.
ويمكن أن يجاب عنه، بأنَّهُ في مبدأ الأمر كثرت الشبهات، بسبب ضعف المؤمنين، واستيلاء الكُفَّارِ، ومنعهم للنَّاسِ من التأمل في تلك الدلائل، وأمَّا بعد قوة الإسلام، وعجز الكُفَّار، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٦٨
قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ الآية.
لمَّا وصف اليهود والنصارى بالتكبّرِ وادعاءِ الربوبية، وصفهم في هذه الآية بالطَّمع والحرص على أخذ أموالِ الناس بالباطل.
فقوله :" كثيراً " يدلُّ على أنَّ هذه طريقة بعضهم، لا طريقة الكل، فإنَّ العالم لا يخلو عن الحق، وإطباق الكُل على الباطل،
٧٧