وإيجابه.
قال ابن عباس " إنه اللَّوحُ الحفوظ " وقيل : القرآن.
فصل قال القرطبيُّ : قوله تعالى :﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾ وهي جمع شهر.
فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً، قالهُ بعض العلماء وقيل : لا يكلمه أبداً.
قال ابنُ العربي : وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة " فُعول " في جمع " فَعْل ".
قوله ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون صفةً لـ " اثْنَا عَشَرَ ".
الثاني : أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار.
الثالث : أن تكون مستأنفة.
والضمير في " منها " عائدٌ على اثنا عشر شهراً، لأنه أقربُ مذكورٍ، على " الشُّهور " والضمير في " فيهنَّ " عائدٌ على " الاثني عشر " أيضاً.
وقال الفرَّاءُ، وقتادةُ : يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ، لوجهين : أحدهما : أنه أقرب مذكور.
والثاني : أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة، والجمعُ الكثيرُ بالعكس، تقول الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويجوزُ العكس.
فصل أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي : ذُو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وواحد فرد، وهو : رجبٌ، ومعنى الحرم : أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له.
فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السَّببُ في هذا التَّمييز ؟ فالجوابُ : هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة.
وفيه فائدة أخرى وهي : أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم
٨٥
والاحترام، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد.
أحدها : أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب ؛ لأنه يقل القبائح.
وثانيها : أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً.
وثالثها : أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة، وبعض الأمكنة، بمزيد التعظيم.
قوله ﴿ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ أي : الحساب المستقيم، يقال :" الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ " أي : حاسبها، وقال الحسنُ :" ذلكَ الدِّينُ القَيّم " الذي لا يبدلُ ولا يُغير، " القَيِّم " - ههنا - بمعنى : القائم الدائم الذي لا يزول، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه.
قوله ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ بفعل المعصية، وترك الطَّاعاتِ، قال ابنُ عبَّاسٍ :" المراد، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، والمراد : منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر ".
وقال الأكثرون الضَّمير في قوله " فِيهِنَّ " عائدٌ على الأربعة الحرم، وقد تقدَّم.
وقيل : المرادُ بـ " الظلم " النَّسيء الذي كانُوا يعملونه، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر، وقيل : المرادُ بـ " الظُّلمِ " ترك المقاتلة في هذه الأشهر.
قوله :﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾ نصب " كَافَّةً " على الحالِ، إمَّا من الفاعل، أو من المفعول، وقد تقدَّم أن " كَافَّةً " لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال، وأنَّها لا تدخلها " أل " ؛ لأنها بمعنى قولك : قامُوا جميعاً، وقامُوا معاًن وأنَّها لا تُثَنَّى، ولا تُجْمع، وكذلك " كافة " الثانية، ومعنى " كافة " أي : جميعاً.
فصل معنى الآية : قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة، أي : تعاونوا وتناصروا على ذلك ؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء.
٨٦