ظاهره، لخافه أن يدل أعداءه عليه، أو لخافه أن يقدم هو على قتله، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره.
وثانيها : أن الهجرة كانت بإذن الله، وكن في خدمة رسول الله ﷺ جماعة من المخلصين، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول اله ﷺ، أقرب من أبي بكر، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين.
وثالثها : أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله ﷺ، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره، ولا تخلَّف عنه كغيره، بل صبر على مؤانسته، وملازمته، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد، وذلك يوجب الفضل العظيم.
ورابعها : أنَّه تعالى سمَّاه :" ثَانِيَ اثْنَيْنِ " فجعله ثاني محمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - في أكثر المناصب الدينية، فإنَّه ﷺ لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن ؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة، والزبير، وعثمان، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله ﷺ بعد أيام قلائل، فكان هو - رضي الله عنه - " ثَانِي اثْنَيْن " في الدَّعوة إلى الله تعالى، وكلَّما وقف رسول الله ﷺ في غزوة، كان أبو بكر يقف في خدمته، فكان " ثَانِيَ اثنين " في المواقف كلِّها، وكلما صلَّى رسولُ الله ﷺ وقف خلفه، وكلَّما جلسَ رسول الله ﷺ، كان " ثَانِيَ اثنين " في مجلسه، ولمَّا مرض رسولُ الله ﷺ، قام مقامه في الإمامة، فكان " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " ولمَّا مات دفن بجنبه، فكان " ثاني اثنين " هناك.
وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى :﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة : ٧] الآية.
ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافرن فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عليه الصلاة والسلام على فضيلة الإنسان أولى ؟.
والجوابُ : أنَّ هذا تعسف بارد ؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى :﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم.
قوله :﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ فالضمير في " عَلَيْه " يعودُ على أبي بكر ؛ لأنَّ رسول الله ﷺ كان عليه السكينة دائماً، وقد تقدَّم القولُ في السكينة.
والضميرُ في " أيَّدهُ " للنبي ﷺ وهو إشارة إلى قصَّة بدر، وهو معطوف على قوله ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾.
وقرأ
٩٦
مجاهد " وأيَدَه " بالتَّخفيف.
و " لَمْ تَرَوْهَا " صفة لـ " جُنُود ".
قوله :﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى ﴾ كلمتهم : الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة، ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ إلى يوم القيامة.
قال ابنُ عبَّاسٍ " هي قول : لا إله إلاَّ الله ".
وقيل : كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية، وكلمة الله : وعده أنه ناصره.
والجمهور على رفع " كَلِمة " على الابتداء، و " هي " يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً، و " العُليا " خبرها، والجملة خبر الأوَّل.
ويجز أن تكن " هي " فصلاً "، و " العُليا " الخبر.
وقرأ يعقوب " وكلمةَ اللهِ " بالنَّصب، نسقاً على مفعولي " جعل " أي : وجعل كلمة الله هي العليا.
قال أبُو البقاء : وهو ضعيفٌ، لثلاثة أوجه : أحدها : وضعُ الظَّاهر موضع المضمر، إذ الوجه أن يقول : وكلمته.
الثاني : أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى، فصارت عليا، وليس كذلك.
الثالث : أنَّ توكيد مثل ذلك بـ " هي " بعيد، إذ القياسُ أن يكون " إياها ".
قال شهابُ الدِّين : أما الأولُ فلا ضعف فيه ؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ، وهو من أحسن ما يكون ؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً.
وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة.
وأمَّا الثالثُ فـ " هِيَ " ليست تأكيداً ألبتة، إنما هي ضمير فصل على حالها، وكيف يكونُ تأكيداً، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر ؟.
ثم قال :﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي : قاهر غالب " حَكِيمٌ " لا يفعل إلاَّ الصَّواب.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٩١
قوله تعالى :﴿انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ الآية.
٩٧