لانجرارها، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ، يجوزُ أن يكون القُعود، أي : لِمَ أذنت لهم في القعود، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام.
ويجوزُ أن يكون الخروج، أي : لِمَ أذنت لهم في الخروج، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل، وغيره، يدلُّ عليه :﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ [التوبة : ٤٧].
قوله :﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾ يجوزُ في " حتى " أن تكون للغاية، ويجوز أن تكون للتعليل، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ، إمَّا بمعنى " إلى "، وإمَّا بمعنى اللام، و " أنْ " مضمرةٌ بعدها، ناصبة للفعل، وهي متعلقة بمحذوفٍ.
قال أبُو البقاءِ :" تقديرهُ : هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ، أو ليتبيَّن، وقوله :﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ يدُلُّ على المحذوف، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق " حتَّى " بـ " أذِنْتَ " لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التَّبيين، وذلك لا يُعاتبُ عليه " وقال الحوفيُّ :" حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ، أي : ما كان له أن يأذن لهم، حتى يتبيَّن له العُذْر ".
وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ.
فصل احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع، ولدخوله عليه الصلاة والسلام تحت قوله تعالى :﴿فَاعْتَبِرُواْ يا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ [الحشر : ٢] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إمَّا أن يقال : إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن، أو منعه عنه، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ، وإلاَّ امتنع أن يقول له :﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾، والثاني باطل ؛ لأنه يلزم منه أن يقال : إنَّه حكم بغير ما أنزل الله، فيدخل تحت قوله :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة : ٤٤ - ٤٧] الآيات.
وذلك باطل بصريح القول.
فلمْ يبق إلاَّ أنَّه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد، أو لا، والثاني باطل ؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى :﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ﴾ [مريم : ٥٩] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد.
فإن قيل : الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد ؛ لأنه تعالى منعه بقوله :﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ ؟ فالجوابُ : أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً، لقوله تعالى :﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة : ٤٣] والحكم الممدود إلى غاية بـ " حتّى " يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا.
فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي ؟.
١٠٢
فالجواب : ما ذكرتموه محتمل ؛ إلاَّ أنه على تقديركم، يصير تكليفه، أن لا يحكم ألبتة، حتى ينزل الوحين فلمَّا ترك ذلك، كان كبيرة، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه، لقوله :" ومن اجتهد فأخطأ فله أجر " فكان حمل الكلامِ عليه أولى.
فصل دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت، وعدم العجلة، والتَّأنِّي، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه.
فصل قال قتادةُ : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال :﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور : ٦٢].
فصل قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا ؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ ؛ فأذن له، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ ؛ فأذن له، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين، وكانوا يثيرون الفتنَ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة، قال القاضي " هذا بعيدٌ ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم ".
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٩٧
قوله تعالى :﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ الآية.
أي : لا يستأذنوك في التخلف ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾.
قوله :" أَن يُجَاهِدُواْ " فيه وجهان :
١٠٣