وجوابه : أنَّ هذا الإشكالِ إنما يتوجَّهُ على قول المعتزلةِ، حيث قالوا : إنَّ الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم، أما عند أهْلِ السُّنَّةِ : فإنَّ شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً وإنَّما هي معرفات، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز.

فصل دلَّت الآية على أنَّ شيئاً من أعمال البر لا يقبل مع الكفر بالله تعالى.


فإن قيل : كيف الجمع بينه وبين قوله :﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة : ٧] ؟ فالجوابُ : أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقابِ، ودلت الآية على أنَّ الصلاة تجب على الكافر، لأنه تعالى ذمَّ الكافر على فعل الصَّلاة على وجه الكسل.
قال الزمخشريُّ " كُسَالَى " بالضمِّ والفتح جمع :" كَسْلان " نحو " سَكَارى ".
قال المفسِّرون : معنى هذا الكسل، أنَّهُ إن كان في جماعة صلَّى، وإن كان وحده لم يصلِّ.
وقوله :﴿وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ أي : لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة.
قوله تعالى :﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾ الآية.
لمَّا قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بيَّن ههنا أنَّ الأشياء التي يظنونها من منافع الدنيا ؛ فإنه تعالى جعلها أسباباً لتعذيبهم في الدُّنيا.
والإعجاب : هو السرور بالشَّيء من نوع الافتخار به، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه.
قوله ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلقٌ بـ " تُعْجِبْكَ "، ويكون قوله :﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ جملة اعتراض، والتقدير : فلا تعجبك في الحياةِ، ويجوز أن يكون الجارُّ حالاً من " أمْوالُهُمْ " وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهد، وقتادة، والسدي وابن قتيبة، قالوا في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم، ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنَّما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
قال أبو حيان :" إلاَّ أنَّ تقييد الإعجاب المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنَّه لا يكون إلاَّ في الحياة الدُّنيا، فيبقى ذلك كأنَّهُ زيادة تأكيد بخلاف التَّعذيب، فإنَّه قد يكون في الدنيا، كما يكون في الآخرة، ومع أنَّ التقديم والتأخير يخصُّه أصحابنا بالضرورة ".
١١٦
قال شهابُ الدين :" كيف يقال - مع نصِّ من قدَّمتُ ذكرهم - أصحابنا يخصُّون ذلك بالضَّرورة ؟ على أنه ليس من التقديم الذي يكون في الضرورة في شيءٍ، إنَّما هو اعتراض، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير، بالاصطلاح الذي يخصُّ بالضرورة.
وتسميتهم - أعني : ابن عباس، ومن معه رضي الله عنهم - إنَّما يريدون به الاعتراض المشار إليه، لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة ".
والثاني : أنَّ " فِي الحياةِ " متعلقٌ بالتعذيب، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ : مصائبُ الدُّنيا ورزاياها أو ما لزمهم من التكاليف الشَّاقة، فإنَّهم لا يرجون عليها ثواباً، قاله ابنُ زيد : أو ما فُرِض عليهم من الزكوات، قاله الحسنُ.
وعلى هذا فالضميرُ في " بها " يعود على الأموال فقط، وعلى الأول يعود على " الأولاد، والأموال ".
فإن قيل : أيُّ تعذيب في المال والولد وهما من جملة النّعم ؟.
فالجوابُ : على القول الأول بالتقديم والتأخير، فالسؤالُ زائل.
وعلى الثاني المصائب الواقعة في المال والولد.
وقيل : بل لا بدَّ من تقدير حذف، بأن يقال : أراد بالتعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب، أمَّا في الدُّنيا، فإن من أحب شيئاً كان تألمه على فراقه شديداً، وأيضاً يحتاج في تحصيلها إلى تعب شديد، ومشاقّ عظيمة، ثم في حفظها كذلك، وأمَّا في الآخرة فالأموال حلالها حساب، وحرامها عذابٌ.
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكلِّ، فما فائدة تخصيص المنافقين ؟.
فالجوابُ : أن المنافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فلا ينفق ماله في سبيل الله لأنَّهُ يراه ضياعاً لا يرجو ثوابه، وأما المؤمن فينفق ماله طيبة بها نفسه، يرجو الثواب في الآخرة والمنافق لا يجاهدث في سبيل الله خوفاً من أن يقتل، والمؤمن يُجَاهدُ، يرجو ثواب الآخرة ثم قال :﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ أي : تخرجُ أنفسهم وهم كارهون.
أي : يموتون على الكفر.
قوله :﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾ على دينكم ﴿وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾ أي : ليسوا على دينكم ﴿وَلَـاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا.
قوله :﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ﴾.
" المَلْجَأ " : الحِصْن.
وقال عطاءٌ : المَهْرب وقيل : الحِرْز وهو " مَفْعَل "، مِنْ : لَجَأ إليه، يلجأ، أي : انحاز.
يقال : ألجَأتُهُ إلى كذا أي : اضطررته إليه فالتَجَأ.
و " الملجأ " يصلحُ للمصدر، والزمان، والمكان.
والظَّاهرُ منها - المكان.
و " المغارات " جمع " مغارة "، وهي الموضع الذي يغور
١١٧


الصفحة التالية
Icon