فصل قال مجاهدٌ : وابن إسحاق : الذي عُفِيَ عنه رجل واحد، وهو مخاشن بنُ حمير الأشجعي، يقال هو الذي كان يضحكُ ولا يخوض، وكان يمشي مجانباً لهم، وينكر بعض ما يسمع فلمَّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وقال : اللَّهُمَّ إني لا أزال أسمعُ آية تَقْرَعُني بها تقشعر الجلودُ، وتجب منها القلوبُ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقولُ أحدٌ : أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه.
فصل ثبت بالروايات أنَّ الطائفتين كانوا ثلاثة ؛ فوجب أن تكون إحدى الطَّائفتين إنساناً واحداً.
قال الزجاجُ : والطَّائفة في اللغةِ أصلها الجماعة ؛ لأنَّها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة، قال تعالى ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور : ٢].
وأقله الواحد، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه، وقال تعالى :﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ [الحجر : ٩].
قال ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد، فتقولُ : خرج فلانٌ إلى مكَّة على الجمال، وقال تعالى :﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ [آل عمران : ١٧٣] يعني : نعيم بن مسعود، ثم إنه تعالى علَّل تعذيبه لهم :﴿بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ١٢١
قوله تعالى :﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ الآية.
١٤٠
لمَّا شرح أنواع قبائح أفعالهم، بيَّن أنَّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة.
قوله :﴿بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ مبتدأ وخبر، أي : من جنس بعضن فـ " من " هنا لبيان الجنس وقيل : للتبعيض، أي : إنَّهم إنما يتوالدون بعضهم من بعض على دينٍ واحدٍ، وقيل : أمرهم واحد بالاجتماع على النفاقِ، ثمَّ فصَّل هذا الكلام فقال :" يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ ".
هذه الجملةُ لا محلَّ لها ؛ لأنَّها مفسرةٌ لقوله :" بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ "، وكذلك ما عطف على " يَأْمُرُون " ولفظ المنكر يدخلُ فيه كل قبيح، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر يدخلُ فيه كل قبيح، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر الشرك والمعصية، والمراد الأعظم ههنا من المعروف الإيمان بالرسول ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ أي : يمسكونها عن الصَّدقة، والإنفاق في سبيل الله.
﴿نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ تركوا طاعة الله فتركهم من توفيقه وهدايته في الدُّنيا ومن رحمته في العقبى.
وإنَّما حملنا النِّسيان على التَّركِ، لأنَّ من نسي شيئاً لم يذكره، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللاَّزم، ولأنَّ النسيان ليس في وسع البشر، وهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل، وهو ما ذكرنا من التَّرك ؛ لأنَّهم تركوا أمر الله حتى صارُوا كالنسي المنسي، فجازاهم بأنَّ صيَّرهم كالشَّيء المنسيّ، كقوله :﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى : ٤٠] ثم قال :﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ أي : الكاملُونَ في الفِسْقِ.
قوله تعالى :﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ الآية.
قال القرطبيُّ وغيره : يقالُ : وعد الله بالخير وعْداً، ووعدَ بالشَّر وعيداً.
وقيل : لا يقال من الشر إلاَّ " أوْعدته " و " توعدته " وهذه الآية رد عليه.
لمَّا بيَّن في المنافقين والمنافقات أنه نسيهم، أي : جازاهم على تركهم التَّمسك بطاعةِ الله، أكَّد هذا الوعيد وضمَّ المنافقين إلى الكفار فيه، فقال :﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ﴾ الآية.
وقوله :" خالدين " حالٌ من المفعول الأول للوعد، وهي حالٌ مقدرةٌ ؛ لأنَّ هذه الحال لم تقارن الوعد.
وقوله :" هِيَ حَسْبُهُم " لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية.
والمعنى : أنَّ تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها، ولا يمكنُ الزيادة عليها.
ثم قال :﴿وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أبعدهم الله من رحمته، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ دائم.
فإن قيل : معنى المقيم والخالد واحد فيكون تكراراً.
فالجوابُ : من وجهين : الأول : أنَّ لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنَّار والخلود المذكور أولاً، ولا يدل على أنَّ العذاب بالنَّارِ دائم.
وقوله :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ يدلُّ على أنَّ لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذابِ.
فإن قيل هذا مشكل ؛ لأنه قال في النَّار المخلدة :" هِيَ حَسْبُهُم " وكونها حسباً يمنع
١٤١