وقال ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بن جبير، وقتادةُ : أتى ثعلبة مشهداً من الأنصار ؛ فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، وتصدقت منه، ووصلت منه القرابة، فمات ابن عمٍّ له، فورث منه مالاً، فلم يف بما قال ؛ فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن ومجاهدٌ : نزلت في ثعلبةَ بن حاطبٍ، ومعتب بن قشير، وهما من بني عمرو بن عوف قد جاءا على ملأ قعوداً وقالا : والله لئن رزقنا الله لنصدقنَّ، فلما رزقهما بخلا به.
والمشهورُ الأول.
فإن قيل : إنَّ الله أمره بإخراج الصَّدقة ؛ فكيف يجوزُ للرسول أن لا يقبلها منه ؟.
فالجواب : لا يبعد أن يقال : إنَّ الله تعالى منع الرسول - عليه الصلاة والسلام - من قبول الصدقة منه إهانة له ليعتبر غيره ؛ فلا يمتنع عن أداء الصدقات، أو أنَّه أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء، لا على وجه الإخلاص، وأعلم الله الرسول بذلك ؛ فلذلك لم يقبل تلك الصدقة، ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قال :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة : ١٠٣] كان هذا غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه ؛ فلهذا امتنع الرَّسولُ - عليه الصلاو والسلام - من أخذ تلك الصَّدقةِ.
فإن قيل : المنافق كافرٌ، والكافر لا يمكنه أن يعاهد الله.
فالجواب : أنَّ المنافق قد يكون عارفاً بالله، إلاَّ أنه كان منكراً لنبوةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام ؛ فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله، ولكونه منكراً لنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام -، كان كافراً.
وكيف لا أقول ذلك وأكثر العالم مقرون بوجود الصانع ؟ أو لعله حين عاهد الله كان مسلماً، ثم لمَّا بخل بالمال، ولم يف بالعهدِ صار منافقاً، ولفظ الآية يدلُّ على ذلك لقوله :﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً﴾ [التوبة : ٧٨].
فإن قيل : هل من شرط المعاهدة أن يتلفظ بها باللسان، أو يكفي النِّيَّة ؟.
فالجواب : قال بعضهم : تكفي النيةُ، وأن قوله :﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ﴾ [التوبة : ٧٥] كان شيئاً نووه في أنفسهم لقوله :﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ [التوبة : ٧٨].
وقال المحققون : هذه المعاهدة مقيدة بالتَّلفظ باللسان، لقوله عليه الصلاة والسلام :" إنَّ الله عفا لأمَّتي ما حدَّثتْ به أنفُسهَا ما لم تتكلَّم به أو تعمل " وأيضاً فقوله ﴿لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ يشعر ظاهره بالقول باللسانِ.
فإن قيل : المراد من الصدقة إخراج المال، وهو على قسمين واجبٌ وغير واجب والواجبُ قسمان :
١٥١
قسم واجبٌ بأصل الشرع كالزَّكاة، والنفقات الواجبةِ.
وقسم لم يجب إلاَّ إذا التزمه العبد كالنذور.
فقوله :" لنصَّدَّقنَّ " هل يتناولُ الأقسام الثلاثة، أو لا ؟ فالجوابُ : أنَّ الصَّدقات الَّتي ليست واجبة، غير داخلة في الآية، لقوله :" بخلوا به " والبخل في عرف الشَّرْعِ عبارة عن منع الواجب ؛ ولأنَّه تعالى ذمَّهُم بهذا الترك، وتارك المندوب لا يذم.
بقي القسمان الواجبان ؛ فالواجب بأصل الشرع داخل في الآية، لا محالة بقي الواجب بالنَّذر، والظَّاهر أن اللفظ لا يدلُّ عليه ؛ لأنه ليس في الآية إلاَّ قوله ﴿لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ وهذا ليس فيه إشعارٌ بالنَّذر، لأنَّ الرجل قد يعاهدُ ربَّهُ في أن يقوم بما يلزمه من الزَّكوات والنفقات الواجبة إن وسَّعَ اللهُ عليه.
فإن قيل : لفظ الآية يدلُّ على أنَّ الذي لزمهم إنَّما بسبب هذا الالتزام، والزكاةُ لا تلزم بسبب هذا الالتزام، وإنما تلزمُ بملك النصاب وحلول الحولِ.
فالجوابُ : قوله :" لنصَّدقنَّ " لا يوجبُ أن يفعلوا ذلك على الفور ؛ لأنَّهُ إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل، وهذا النذر لا يوجبُ الفور ؛ فكأنهم قالوا : لنصدقن في وقته كما قالوا :﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي : في أوقات لزوم الصَّلاة ؛ فثبت بما قرَّرْنَا أنَّ الدَّاخل تحت هذا العهد، إخراج الأموال الواجبة بأصل الشَّرع، ويؤكد هذا ما روي في سببن النُّزولِ أنَّ الآية إنَّما نزلت في حق من امتنع من أداة الزَّكاةِ.

فصل المرادُ من " الفضل " ههنا : إيتاء المالِ بأي طريق كان، إمَّا بتجارة، أو غنيمةٍ أو غير ذلك.


والمرادُ بـ " الصَّالحينَ " : الصالح ضد المفسد، والمفسد عبارة عمَّن بخل بما يلزمه في التكليف، فالصَّالح : من يعملُ بعمل أهل الصَّلاحِ من صلة الرَّحمِ والنَّفقةِ في الخير، ونحو ذلك.
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾.
قال الليثُ : يقال : أعقب فلاناً ندامةٌ، إذا صيرت عاقبة أمره ذلك، قال الهذليُّ :[الكامل] ٢٨١٧ - أودى بنيَّ وأعقبُوني حَسْرَةً
بَعْد الرُّقادِ وعبْرَةٌ لا تُقْلِعُ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ١٤٥
١٥٢


الصفحة التالية
Icon