والثالث : وهو مذهب عيسى بن عمر : أنَّهُ فعلٌ فارغ من الضَّمير، وإنَّما لم يُنوَّن ؛ لأنَّه عنده غيرُ منصرفٍ، فإنه يُمْنَع بوزن الفعل المشترك، فلو سُمِّي بـ " ضرب، وقتل " منعهما، أمَّا مجردُ الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع ألْبَتَّة، نحو : جَمَل، وجَبَل.
والمراد بأهل المدينةِ : الأوس والخزرج.
و " مَرَدُوا " أي : مَهَرُوا، وتمرَّنُوا، وثبتوا على النفاق.
وقال ابن إسحاق : لجوُّا فيه وأبوا غيره.
وقال ابنُ زيدٍ : أقاموا عليه ولم يتوبوا.
وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة في النِّساءِ، عند قوله :﴿شَيْطَاناً مَّرِيداً﴾ [النساء : ١١٧].
قوله :" لا تَعْلمُهُم " هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً لـ " مُنَافِقُون "، ويجوزُ أن
١٨٩
تكون مستأنفةً، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه ؛ فيتعدَّى لاثنين، أي : لا تعلمهم منافقين فحذف الثَّاني للدلالة عليه بتقدُّم ذكر المنافقين ؛ ولأنَّ النفاق من صفاتِ القلب، لا يطلع عليه.
وأن تكون العرفانية فتتعدَّى لواحد، قاله أبُو البقاءِ.
وأمَّا " نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ " فلا يجوزُ أن تكون إلاَّ على بابها، لما تقدَّم في الأنفال، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى، وهو محذُورٌ لما تقدَّم.
قوله :" سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ " تقدَّم الكلامُ في نصب ﴿مَرَّةٍ﴾ [التوبة : ١٣]، وأنَّه من وجهين، إمَّا المصدرية، وإمَّا الظرفية، فكذلك هذا، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد، وعليه الأكثر، واختلفُوا في تفسيرها، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية، بل يُراد بها التَّكثيرُ، كقوله تعالى :﴿ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ [الملك : ٤]، أي : كرَّاتٍ، بدليل قوله :﴿يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك : ٤]، أي : مزدجراً، وهو كليلٌ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات، ومثله " لبَّيْكَ، وسعْديكَ، وحنَانيْكَ ".
وروى عياشٌ عن أبي عمرو " سنُعذِّبْهُم " بسكون الباءِ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ كـ ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ [آل عمران : ١٦٠] وبابه، وإن كان باب " ينْصُركُم " أحسن تَسْكِيناً، لكون الرَّاءِ حرف تكرار ؛ فكأنه توالى ضمَّتان، بخلاف غيره، وقد تقدَّم تحريره.
وقال أبُو حيَّان : وفي مصحف أنس " سيُعذِّبهُم " بالياءِ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ، فكيف يقال هذا ؟ ! فصل وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين : فقال السُّديُّ والكلبيُّ : قام النبيُّ ﷺ خطيباً يوم الجمعة فقال :" اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ...
" فأخرج من المسجد ناساً، وفضحهم، فهذا هو العذابُ الأولُ.
والثاني : عذاب القبر.
وقال مجاهدٌ : الأولُ القتل والسبي، والثاني عذاب القبر، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين.
وقال قتادةُ : بالدبيلة في الدُّنيا، وعذاب القبر.
وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا،
١٩٠


الصفحة التالية
Icon