القلَّة مثل الحبَّة الواحدة من الحنطة، أو الجزء الحقير من الذَّهبِ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفيَّة والكمية عندهم، حتى يكون قوله :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة : ١٠٣] أمراً بأخذ تلك الصَّدقة المعلومة، لكي يزول الإجمالُ.
وليست إلاَّ الصدقة التي وصفها رسُول الله ﷺ في أن يأخذ في خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، إلى غير ذلك، وأجاب الأوَّلُون بأنَّ النبي ﷺ بيَّنها بأخذ الثلث فزال الإجمال، وظهر تعلق الآية بما قبلها، وعلى قولكم لا يظهر تعلق الآية بما قبلها.
قوله :﴿..
مِنْ أَمْوَالِهِمْ..
﴾ يجوزُ فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلقٌ بـ " خُذْ "، و " مِنْ " تبعيضية.
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّها حالٌ من " صدقةً "، إذ هي في الأصل صفةٌ لها، فلمَّا قُدِّمت نُصبَتْ حالاً.
والصَّدقة : مأخوذة من الصِّدْقِ، وهي دليل على صحَّة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنَّهُ ليس من المنافقين الذين يَلْمِزُون المُطَّوعين من المُؤمنينَ في الصَّدقاتِ.
قوله :﴿تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ يجوزُ أن تكون التَّاء في " تُطَهِّرُهمْ " خطاباً للنبي ﷺ، وأن تكون للتنبيه، والفاعل ضمير الصدقة، فعلى الأوَّل تكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " خُذْ ".
ويجوز أن تكون صفةً لـ " صَدقَةً "، ولا بدَّ حينئذ من حذف عائد، تقديره : تُطهِّرُهُم بها، وحذف " بها "، لدلالة ما بعده عليه.
وعلى الثاني تكون الجملة صفة لـ " صدقة " ليس إلاَّ، وأمَّا " تُزَكِّيهم " فالتاء فيه للخطاب لا غير، لقوله " بها "، فإنَّ الضمير يعود على الصَّدقة فاستحال أن يعود الضميرُ من " تُزكِّيهم " إلى الصَّدقة.
وعلى هذا فتكونُ الجملةُ حالاً من فاعل " خُذ " على قولنا : إنَّ " تَطهِّرهُم " حال منه، وإنَّ التَّاء فيه للخطاب.
ويجوزُ أيضاً أن تكون صفةً إن قلنا : إنَّ " تُطهِّرهم " صفةٌ، والعائدُ منها محذوفٌ.
وجوَّز مكيٌّ أن يكون " تُطهِّرُهُم " صفةً لـ " صَدقةً "، على أنَّ التَّاء للغيبة، و " تُزكِّيهم " حالاً من فاعل " خُذْ "، على أنَّ التاء للخطاب، ورَدُّوهُ عليه بأنَّ الواو عاطفةٌ، أي : صدقة مطهِّرة، ومُزكياً بها، ولو كان بغير واوٍ جاز، ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ، فإنَّ الواو مُشتركةٌ لفظاً ومعنى، فلو كانت " وتُزكِّيهم " عطفاً على " تُطهِّرُهم " للزمَ أن يكون صفةً كالمعطوفِ عليه ؛ إذْ لا يجُوزُ اختلافهما، ولكن يجوزُ ذلك على أن " تُزكِّيهم " خبر مبتدأ محذوف، وتكون الواوُ للحالِ، تقديره : وأنت تزكِّيهم، وفيه ضعفٌ، لقلَّةِ نظيره في كلامهم.
وتلخَّص من ذلك أنَّ الجملتين يجُوزُ أن تكونا حالين من فاعل " خُذْ " على أن تكون التاءُ للخطابِ، وأن تكونا صفتين لـ " صَدقَة " على أنَّ التاء للغيبة، والعائد محذوفٌ من الأولى، وأن يكُون " تُطهِّرهُم " حالاً، أو صفة، و " تُزكِّيهم " حالاً على ما جوَّزه مكيٌّ، وأن يكون " تزكِّيهم " خبر مبتدأ محذوف، والواوُ للحال.
وقرأ الحسنُ " تُطْهرُهم " مُخَفَّفاً من " أطهر " عدَّاهُ بالهمزة.
١٩٤