صدقَةَ إلاَّ عَنْ غنى، ومِنْ غنى "، وفعل ذلك فلانٌ من أشره وبطره، وعن أشره وبطره ".
وقيل : لفظة " عَنْ " تُشْعر ببعدٍ ما، تقول : جلسَ عن يمين الأمير، أي : مع نَوْعٍ من البُعْدِ.
والظَّاهِرُ أنَّ " عَنْ " للمجاوزة على بابها، والمعنى : يتجاوزُ عن عباده بقبول توبتهم، فإذا قلت : أخذت العلم عن زيد ؛ فمعناه المجاوزةُ، وإذا قلت " منه " فمعناه ابتداء الغاية.
قال القاضي :" لعلَّ " عَنْ " أبلغ ؛ لأنَّهُ ينبىء عن القبُولِ مع تسهيل سبيله إلى التَّوبة التي قبلت " قوله :" وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ " فيه سؤالٌ : وهو أنَّ ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الله تعالى، وقوله :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام -، وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ " خذها من أغنِيائهم " يدلُّ على أنَّ آخذ تلك الصدقات معاذ، وإذا دفعت إلى الفقير فالحسُّ يشهد أن آخذها هو الفقير، فكيف الجمع بين هذه الألفاظ ؟.
والجوابُ من وجهين : الأول : أنَّهُ تعالى لمَّا قال ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ ثمَّ ذكر ههنا أنَّ الآخذ هو، علم منه أنَّ أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله، والمقصود منه : التنبيه على تعظيم شأنِ الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ونظيره قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح : ١٠].
والثاني : أنَّهُ أضيف إلى الرسول، بمعنى أنَّهُ يأمر بأخذها، ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى النَّاس، وأضيف إلى الفقير، بمعنى أنَّهُ هو الذي يباشرُ الأخذ، ونظيره أنَّهُ أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم﴾ [الأنعام : ٦٠]، وأضافه إلى ملك الموتِ بقوله :﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾ [السجدة : ١١] وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت بقوله :﴿حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ [الأنعام : ٦١]، فأضيف إلى الله بالخلق، وإلى ملك الموت بالرئاسة في ذلك النَّوع من العمل، وإلى أتباع ملك الموت بالمباشرة التي عندها يخلق الله الموت، فكذا ههنا.
قوله :" هُوَ التَّوَّابُ " يجوزُ أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ بخلاف ما قبله.
فصل روى أبو هريرة قال : سمعتُ رسول الله ﷺ يقولُ :" والَّذي نَفْسِي بيدهِ مَا مِنْ عبْدٍ يتصدَّقُ بصدقةٍ من كَسْب طيِّب ولا يَقْبلُ اللهُ إلاَّ طيباً، ولا يصْعَدُ إلى السَّماء إلاَّ الطَّيِّبُ إلاَّ كأنما يضعُها في يدِ الرَّحمنِ فيُربيها لهُ كما يُرَبِّي أحدُكمْ فلُوَّهُ حتَّى إنَّ اللُّقْمةَ لتأتِي يَوْمَ القيامةِ، وأنَّها لمِثْلُ الجبل العظيم "، ثم قرأ :﴿أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾.
قوله تعالى :﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ الآية.
١٩٧