فتحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله، فقُلِب ألفاً، فصار مثل قولهم : كبشٌ صافٌ.
أي : صَوِف، ويومٌ راحٌ، أي : روحٌ.
وعلى هذا، فيجري بوجوه الإعراب أيضاً كالذي قبله، كما تقولُ : هذا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررت ببابٍ.
وهذا أعدل الوُجُوهِ، لاستراحته من ادِّعاءِ القلبِ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصلِ، لولا أنه غير مشهور عند أهل التَّصريف.
ومعنى :" هَارٍ " أي : ساقط متداع منهال.
قال الليثُ : الهورُ : مصدر هَارَ الجُرفُ يهورُ، إذا انصدَعَ من خلفه، وهو ثابتٌ بعدُ في مكانه، وهو جرفٌ هارٍ أي : هائر، فإذا سقط ؛ فقد انهارَ وتَهيَّر.
ومعناه السَّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرَّمل والشيء الرخو.
قوله :" فَانْهَارَ " فاعله إمَّا ضميرُ البنيان، والهاءُ في " به " على هذا ضمير المؤسس الباني أي : فسقط بنيان الباني على شفا جرفٍ هار، وإمَّا ضمير الشَّفَا، وإمَّا ضمير الجرف أي : فسقط الشَّفَا، أو سقط الجرفُ، والهاء في " بِهِ " للبنيان، ويجوزث أن يكون للباني المؤسس.
والأولى أن يكون الفاعل ضميرَ الجرف ؛ لأنَّهُ يلزمُ من انهياره انهيارُ الشَّفَا والبنيان جميعاً، ولا يلزمُ من انهيارهما أو انهيار أحدهما انيهارهُ.
والباءُ في " به " يجوز أن تكون المعدِّية، وأن تكون التي للمصاحبة، وقد تقدَّم الخلاف في أول الكتاب أنَّ المعدِّيةَ عند بعضهم تستلزم المصاحبة.
وإذا قيل إنَّها للمصاحبة هنا ؛ فتتعلقُ بمحذوفٍ ؛ لأنَّها حال أي : فانهار مصاحباً له.
فصل معنى الآية : أفمَنْ أسَّس بنيان دينه على قاعدةٍ قويَّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير، أمَّنْ أسَّسَ على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطلُ والنِّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم ؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفاً على السُّقوط ولكونه على طرف جهنم، كان إذا انهار فإنَّما ينهار في قعر جهنم، فالمعنى أنَّ أحد البنائين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، والبناء الثاني خسيساً واجب الهدم ؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال، ﴿وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
قوله :﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾.
أي : ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم.
و " بُنيَانهُم " يحتملُ أن يكون مصدراً على حاله، أي : لا يزالُ هذا الفعلُ الصَّادرُ منهم، ويحتملُ أن يكون مراداً به المبني، وحينئذٍ يضطرُّ إلى حذف مضاف، أي : بناء بنيانهم ؛ لأن المبنيَّ ليس ريبةً، أو يقدَّر الحذف من الثاني أي : لا يزال مبنيُّهم سبب ريبة.
وقوله :" الذي بَنَوا " تأكيدٌ دفعاً لوهم من يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة، وإنَّما دبَّرُوا أموراً، من قولهم : كم أبني وتهدمُ، وعليه قوله :[الطويل]
٢١٣
٢٨٤٩ - متى يبلغُ البُنْيانُ يَوْماً تَمَامَهُ
إذَا كُنْتَ تَبْنيهِ وغيْرُكَ يَهْدِمُ ؟
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٠٢
فصل في كونه سبباً للريبة وجوه : الأول : أنَّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضَّرار، فلمَّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته.
وثانيها : أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - لما أمر بتخريبه، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما أمر بتخريبه حسداص، فارتفع أمانهم عنه، وعظم خوفهم منه، وصاروا مرتابين في أنَّهُ هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم ؟ وثالثها : أنَّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد، كما حبب العجل إلى قوم موسى، فلمَّا أمر الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه ؟ قاله ابن عباس.
وقال الكلبيُّ :" ريبة " أي : حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه.
وقال السُّدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة، أي : حزازة وغيظاً في قلوبهم.
قوله :" إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ " المستثنى منه محذوفٌ، والتقدير : لا يزالُ بنيانهم ريبةً في كلِّ وقت إلاَّ وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلاَّ حال تقطيعها.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص " تقطَّع " بفتح التَّاء، والأصل تتقطع بتاءين، فحذفت إحداهما.
وعن ابن كثير " تَقْطع " بفتح الياء وتسكين القاف " قُلوبَهُم " بالنصب، أي : تفعلُ أنت بقلوبهم هذا الفعل.
وقرأ الباقون " تُقَطَّع " بضمِّها، وهو مبني للمفعول، مضارع " قطَّع " بالتشديد.
وقرأ أبيّ " تَقْطَع " مخففاً من " قطع ".
وقرأ الحسنُ، ومجاهد وقتادة، ويعقوب " إلى أن " بـ " إلى " الجارة.
وأبو حيوة كذلك، وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلاَّ أنَّا أبا حيوة قرأ " تُقَطِّع " بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً والفاعل ضميرُ الرسول، " قُلُوبَهُم " نصباً على المفعول به، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكَّن منهم
٢١٤


الصفحة التالية
Icon