قوله تعالى :﴿التَّائِبُونَ﴾ الآية.
لمَّا بينَّ أنَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم، بيَّن ههنا أنَّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات.
وقال جماعةٌ : الآية الأولى مستقلة بنفسها، يقع تحت تلك المبايعة كل مُوحّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإنْ لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية.
قوله :" التَّائِبُونَ " فيه خمسةُ أوجه : أحدها : أنَّهُ مبتدأ، وخبره " الْعَابِدُونَ " وما بعده أوصاف، أو أخبار متعددة عند من يرى ذلك.
الثاني : أنَّ الخبر قوله " الآمِرُونَ ".
الثالث : أنَّ الخبر محذوفٌ، أي : التَّائِبُون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة، أي من لم يجاهد غير معاندٍ، ولا قاصد لترك الجهادِ فله الجنَّةُ، قال الزجاجُ : وهو حسن، كأنه وعد الجنَّة لجميع المؤمنين، كقوله :﴿وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [النساء : ٩٥] ويؤيده قوله :﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وهذا عند من يرى أنَّ هذه الآية منقطعةٌ ممَّا قبلها وليست شرطاً في المجاهدةِ.
وأمَّا من زعم أنَّها شرطٌ في المجاهدة، كالضَّحاك وغيره فيكون إعراب التَّائبين خبر مبتدأ محذوف، أي : هم التائبون، وهذا من باب قطع النُّعُوتِ، وذلك أنَّ هذه الأوصاف عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى :﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ويؤيِّدُ ذلك قراءة أبيّ، وابن مسعود، والأعمش " التَّائبينَ " بالياءِ، ويجوزُ أن تكون هذه القراءةُ على القطع أيضاً ؛ فيكون منصوباً بفعل مقدر، وقد صرَّح الزمخشري، وابنُ عطية بأنَّ التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ للمؤمنين.
الخامس : أنَّ " التَّائبُونَ " بدلٌ من الضمير المتصل في " يُقاتِلُونَ ".
ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً فلم يقل : التَّائبُون من كذا لله، ولا العابدون لله لفهم ذلك، إلاَّ صفتي الأمر والنَّهي، مبالغةً في ذلك.
ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف، لمناسبتها لبعضها، إلاَّ في صفتي الأمر والنَّهي، لتبايُن ما بينهما، فإنَّ الأمر طلبُ فعلٍ، والنَّهْيَ طلبُ تركٍ، أو كفٍّ.
وكذا " الحَافِظُونَ " عطفه وذكر متعلقه وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نظمٍ، وهو ظاهرٌ بالتأمل، فإنَّهُ قدَّم التوبة أولاً، ثم ثنَّى بالعبادة إلى آخرها.
وقيل : إنَّما دخلت الواوُ ؛ لأنها " واوُ " الثمانية، كقولهم :﴿وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف : ٢٢] وقوله :﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر : ٧٣] لمَّا كان للجنَّة ثمانية أبواب أتى معها بالواو.
قال بعض النَّحويين : هي لغة فصيحةٌ لبعض العربِ، يقولون إذا عدُّوا : واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة.
قال القرطبيُّ :" وهي لغة قريش " وقال أبو البقاءِ :" إنَّما دخلت " الواو " في الصفة الثامنة، إيذاناً بأنَّ
٢١٨
السبعة عندهم عدد تام، ولذلك قالوا : سبع في ثمانية، أي : سبع أذرع في ثمانية أشبارٍ، وإنَّما دلَّت الواوُ على ذلك لأنَّ الواو تُؤذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها، ولذلك دخلت في باب عطفِ النَّسق ".
وهذا قولٌ ضعيفٌ جدّاً، لا تحقيقَ له.
فصل في تفسير هذه الصفات قوله " التَّائِبُونَ " قال ابنُ عبَّاسٍ : التَّائِبُونَ من الشِّرْكِ وقال الحسنُ : من الشِّرك والنفاق.
وقيل : التائبون الراجعون عن الحالة المذمومة قال القرطبيُّ :" الراجع إلى الطَّاعة أفضل من الراجع عن المعصية، لجمعه بين الأمرين " وقال الأصوليُّون : التَّائبُونَ من كلِّ معصيةٍ، لأنَّها صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل، فالتخصيص تحكم.
و " العَابِدُونَ " قال ابنُ عباسٍ " الذين يؤدُّون العبادة ا لواجبة عليهم " وقال غيره : المطيعون الذين أخلصُوا العبادة لله تعالى وقال الحسنُ " هم الذين عبدُوا الله في السَّراء والضَّراء " وقال قتادةُ " قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم " الْحَامِدُونَ " الذين يحمدون الله على كُلِّ حال في السّراء والضّراء.
قال عليه الصلاة والسلام :" أوَّلُ مَنْ يُدعَى إلى الجنَّةِ يوْمَ القيامةِ الذين يَحمدُونَ الله فِي السَّراءِ والضَّراءِ ".
" السَّائِحُونَ " قال ابنُ مسعودٍ : الصائمون.
وقال ابن عباس " ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام " وقال عليه الصلاة والسلام :" سياحةُ أمتي الصيامُ ".
" وعن الحسن " أنَّ هذا صوم الفرض " وقيل : هم الذين يديمون الصيام.
قال سفيانُ بنُ عيينة " إنَّما سُميَ الصَّائمُ سائحاً، لتركه اللذات كلها، من المطعم والمشرب والنكاح " وقال عطاءٌ :" السَّائحون هم الغزاةُ في سبيل الله " وهو قول مسلم.
وقال عكرمةُ :" هم طلبة
٢١٩


الصفحة التالية
Icon