وقوله :﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة : ٤٦] ؛ لأنَّه تعالى ذكر هذا الوصفَ في معرض المدح والثناء، ولا يكونُ ذلك إلا مع علمهم.
وقيل : هو على بابه ؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام وقف أمرهم على الوحي، فهم لم يقطعوا بأنَّ الله ينزل في شأنهم قرآناً، بل كانوا مُجَوِّزين لذلك، أو كانُوا قاطعين بأنَّ الله ينزل الوحي ببراءتهم، ولكنهم جوَّزُوا أن تطول المدّة في بقائهم في الشِّدَّة، فالظَّن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة.
قوله :﴿أَن لاَّ مَلْجَأَ﴾ " أنْ " هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين، و " لا " وما في حيَّزها الخبرُ، و ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ خبرها، ولا يجوزُ أن تتعلق بـ " مَلْجَأ "، ويكون " إلاَّ إليْهِ " الخبر لأنه كان يلزم إعرابه ؛ لأنَّهُ يكون مطوَّلاً.
وقد قال بعضهم : إنَّه يجوزُ تشبيهُ الاسم المُطَوَّل بالمضاف فيُنتزعُ ما فيه من تنوينٍ ونونٍ، كقوله :[الطويل] ٢٨٥٨ - أرَانِي ولا كُفرانَ للهِ أيَّةً
.....................
وقوله عليه الصلاة والسلام :" لا صَمْتَ يومٌ إلى اللَّيْلِ " برفع " يومٌ " وقد تقدم ذلك [الأنفال : ٤٨].
قوله :" إلاَّ إليه " استثناء من ذلك العامِّ المحذوفِ، أي : لا ملجأ لأحدٍ إلاَّ إليه كقولك :" لا إله إلاَّ الله ".
فصل هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ﴾ [التوبة : ١٠٦].
واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين فقيل : ليس المراد أنهم أمروا بالتَّخلفِ، أو حصل الرِّضا من الرَّسول بذلك، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً ؟ فيقولُ : بموضع كذا، لا يريدُ به أنَّهُ أمره بالتخلُّف، بل لعلَّه قد نهاهُ عنه، وإنَّما يريدُ أنَّهُ تخلَّف عنه.
وقيل : لا يمتنعُ أن هؤلاء الثلاثة كان عزمهم الذهاب إلى الغزوِ ؛ فأذن لهُمُ الرَّسُولُ
٢٣٢
- عليه الصلاة والسلام - في قدر تحصيل الآلات، فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل، فصح أن يقال : خلفهم الرسول.
وقيل : إنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ﴾ [التوبة : ١٠٦] والمرادُ من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة.
قال كعبُ بنُ مالكٍ، وهو أحد الثلاثةِ : قول الله في حقنا ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾ ليس من تخلفنا إنَّما هو تأخيرُ رسُول الله ﷺ أمرنا ؛ يشير إلى قوله :﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ﴾ [التوبة : ١٠٦] فصل هؤلاء الثلاثةُ هم : كعب بنُ مالكٍ الشَّاعر، وهلالُ بنُ أميَّة الذي نزلت فيه آية اللعان، ومُرارةُ بنُ الرَّبيع.
وفي قصتهم قولان : الأولُ : أنَّهم ذهبوا خلف الرَّسولِ - عليه الصلاة والسلام -، قال الحسنُ : كان لأحدهم أرضٌ ثمنها مائة ألف درهم فقال : يا أرضاهُ ما خلَّفني عن رسول الله ﷺ إلاَّ أمرك ؛ فاذهبي في سبيل الله، فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسُول الله ﷺ وفعل، وكان للثاني أهلٌ فقال : يا أهلاهُ ما خلَّفني عن رسول الله ﷺ إلا أمرك ؛ فلأكابدن المفاوز حتَّى أصل إليه وفعل.
والثالث : ما كان ذا مال ولا أهل فقال : ما لي سبب إلا الضَّن بالحياةِ، والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله ﷺ ؛ فلحقوا برسُول الله ﷺ فنزل قوله ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ﴾ [التوبة : ١٠٦].
والثاني - وهو قول الأكثرين - : أنهم ما ذهبوا خلف الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - قال كعبٌ :" كان رسول الله ﷺ يحب حديثي، فلما أبطأت عليه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام : ما الذي حبس كعباً فلمَّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم، وأتيته فقلتُ : إن كراعي، وزادي كان حاضراً، واحتبست بذنبي، فاستغفر لي فأبى رسولُ الله ﷺ ذلك، ثمَّ إنَّه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم، حتى أمر بذلك نساءهم ؛ فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وجاءت امرأة هلال بن أميَّة وقالت : يا رسول الله لقد بكى، حتَّى خفتُ على بصره، حتَّى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى :﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ [التوبة : ١١٧] وقوله :﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾ فخرج رسول الله ﷺ إلى حجرته، وهو عند أمِّ سلمة فقال : اللهُ أكبرُ ؛ قد أنزلَ اللهُ عُذْرَ أصحَابِنَا " فلمَّا صلَّى الفَجْرَ ذكر ذلك لأصحابه، وبشرهم بأنَّ الله تاب عليهم ؛ فانطلقُوا إلى رسُول الله ﷺ، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعبٌ : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال :" لا " فقلتُ : نصفه، قال :" لا "، قلت : فثلثه، قال :" نعم ".
٢٣٣


الصفحة التالية
Icon