وعلى الثاني : أنَّهم كانُوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد، والآن زادت تلك الأخلاق الذَّميمة بسبب نزول هذه السُّورة الجديدة.
والأمر الثاني : أنَّهم يموتون على كفرهم، وهذه الحالة مضادة للاستبشار الذي حصل في المؤمنين، وهذه الحالة أقبحُ من الحالةِ الأولى ؛ لأنَّ الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرَّجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكُفْرِ وموتهم عليه.
قال مجاهدٌ :" في هذه الآية الإيمان يزيدُ وينقصُ، وكان عمر يأخذُ بيد الرَّجُلِ والرجلين من أصحابه فيقولُ تعالوا نزداد إيماناً، وقال عليُّ بن أبي طالبٍ : إنَّ الإيمان يبدو نقطة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياضُ حتَّى يبيضَّ القلب كله وأيْمُ الله لو شققتم عن قلبِ المؤمنِ لوجدتموه أبيضَ، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود.
قوله :" أَوَلاَ يَرَوْنَ " قرأ حمزة، ويعقوب بتاء الخطابِ، وهو خطابُ للذينَ آمنُوا والباقون بياءِ الغيبة، رجُوعاً على ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾.
والرُّؤية هنا تحتمل أن تكون قلبية وأن تكون بصريةً.
قال الواحديُّ : قوله :" أولا تَروْنَ " هذه ألف الاستفهام دخلت على " واو " العطف، فهو متصل بذكر المنافقين، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليلِ في قوله :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً﴾ [الحج : ٦٣] المعنى : أنزل الله من السماءِ ماء ؛ فكان كذا وكذا.
قوله :﴿أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ أي : يبتلون " في كُلِّ عام مرَّةً أو مرَّتين " بالأمراض والشدائد.
" ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ " عن ذلك النِّفاق، ولا يتَّعظُون كما يتَّعظُ المؤمنُ إذا مرض، فإنَّهُ يتذكَّرُ ذنوبه، وموقفه بين يدي الله، فيزيده ذلك خوفاً وإيماناً، قاله ابنُ عبَّاسٍ.
وقال مجاهدٌ : يفتنون بالقحطِ والشِّدة والجوع.
وقال قتادة : بالغزو والجهاد ؛ لأنَّهُم إذا تخلَّفوا وقعوا في ألسنة النَّاس باللَّعْن والخزي والذكر القبيح، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين فقد عرَّضُوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنَّهْبِ من غير فائدة.
قال مقاتل : يفضحون بإظهار نفاقهم.
وقال عكرمةُ : ينافقون ثم يؤمنون ثم
٢٤٥
ينافقون.
وقال يمان : ينقضون عهدهم في السَّنة مرة أو مرتين " ثُمَّ لا يتوبُونَ " من نقض العهدِ، ولا يرجعون إلى الله من النِّفاقِ ؛ " وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ " أي : لا يتَّعظُون بما يرونَ من تصديق وعد الله بالنَّصر والظفر للمسلمين.
قوله تعالى :﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ الآية.
هذا نوع آخر من مخازي المنافقين، وهو أنَّهُ كلما نزلت سورة مشتملة على شرح فضائح المنافقين وسمعوها تأذّوا من سماعها، ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطَّعْن في تلك السُّورة والاستهزاء بها، وتحقير شأنها، ويحتملُ أنَّهُمْ كانوا يستحقرون القرآن كُلَّهُ ؛ فكلما سمعوا سورة، استهزءوا بها وطعنوا فيها، وضحكوا وتغامزوا، وقيل : نظر بعضهم إلى بعض يريدون الحرب.
قوله :﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ في محل نصب بقول مضمر، أي : يقولون : هل يراكم، وجملةُ القول في محل نصب على الحال، و " مِنْ أحَدٍ " فاعل.
والمعنى : أنَّهم عند سماع تلك السُّورةِ يتأذون، ويريدون الخروج من المسجد، يقول بعضهم لبعض ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ من المؤمنين إن قمتم، فإن لم يراهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أنَّ أحداً يراهم أقاموا وثبتوا.
وقيل : إنهم كانُوا إذا نزلت سورةٌ اشتدَّ كفرهم ونفاقهم، وذلك النظر دالٌّ من الإنكار الشديد، والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النَّظر وتلك الأحوال الدَّالة على النِّفاقِ والكفر ؛ فعند ذلك قالوا :﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ أي : لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدّاً.
ثم قال تعالى :﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ : عن كل رشد وخير وهدى وقال الحسن : طبع الله على قلوبهم.
وقال الزجاج " أضلهم اللهُ تعالى مجازاةً على فعلهم ".
ذلك :﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون﴾ عن الله دينه.
قال ابنُ عبَّاسٍ : لا تقولُوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإنَّ قوماً انصرفوا ؛ فصرف اللهُ قلوبهم، ولكن قولوا : قد قضينا الصلاة.
والمقصود : التفاؤل بترك هذه اللَّفظة الواردة فيما لا ينبغي، والتَّرغيب في تلك اللفظةِ الواردة في الخير قال تعالى :﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ﴾ [الجمعة : ١٠].
قوله تعالى :﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ الآية.
لمَّا أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - أن يبلغ التكاليف الشاقَّة في هذه السورة إلى
٢٤٦