وأيضاً فإنَّ الخبر في هذا الباب إذا وقع جملة فعلية، فلا بد من الفصل بأشياء تقدَّمت في المائدة.
ولكن ذلك الفاصل هنا متعذِّرٌ.
والثاني : أنَّها التي بصدد أن تنصب الفعل المضارع، وهي توصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً، نحو :" كَتبتُ إليْه بأنْ قُمْ ".
وقد تقدم البحث في [النساء٦٦]، ولم يذكر المنذرُ به وذكر المُبَشَّرَ به ؛ لأنَّ المقام يقتضي ذلك، وقدَّم الإنذار على التَّبشير، لأنَّ إزالة ما لا ينبغي مقدَّم في الرتبة على ما لا ينبغي، والإنذار للكفَّار والفساق ليرتدعوا عن فعل ما لا ينبغي، والتَّبشير لأهلِ الطَّاعةِ ؛ لتقوى رغبتهم فيها.
قوله :﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ﴾ " أنَّ " وما في حيَّزها هي المُبشَّرُ بها، أي : بشِّرهُم باستقرارِ قدمِ صدْق، فحذفت الباءُ، فجرى في محلِّها المذهبان، والمرادُ بـ " قدم صِدْقٍ " : السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرَّفيعة، وإليه ذهب الزجاج والزمخشريُّ ؛ ومنه قولُ ذِي الرُّمَّة :[الطويل] ٢٨٦٧ - لَكُم قدمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أنَّهَا
مَعَ الحسَبِ العَاديِّ طمَّتْ على البَحْرِ
٢٥٥
لمَّا كان السعي والسبقُ بالقدم سُمِّي السَّعي المحمود قدماً، كما سُمِّيت اليدُ نعمةً لمَّا كانت صادرةً عنها، وأضيف إلى الصدق دلالةً على فضله، وهو من باب " رجُلُ صدقٍ، ورجلُ سوءٍ ".
وقيل : هو سابقةُ الخير التي قدَّمُوها ؛ ومنه قول وضَّاح اليمن :[المنسرح].
٢٨٦٨ - مَالكَ وضَّاحُ دَائِمَ العَزَلِ
ألَسْتَ تَخْشَى تقارُبَ الأجَلِ
صلِّ لذي العَرْشِ واتَّخِذْ قَدَماً
يُنْجِيكَ يَوْمَ العَثَارِ والذَّلَلِ
وقيل : هو التقدُّم في الشرف ؛ ومنه قول العجَّاج :[الرجز] ٢٨٦٩ - ذَلَّ بنُو العوَّامِ عنْ آلِ الحَكَمْ
وتَرَكُوا المُلْكَ لملكٍ ذي قَدَمْ
أي : ذي تقدُّم وشرف.
قال ابن عبَّاس : أجراً حسناً بما قدَّمُوا من أعمالهم، وروى عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس : هو السعادة في الذكر الأول.
وقال زيد بن أسلم : هو شفاعة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام -.
وقال عطاء : مقام صدق، لا زوال له، ولا بؤس فيه.
وأضيف القدمُ إلى الصِّدق وهو نعته، كقولهم : مَسْجِد الجَامِع، ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ [ق : ٩].
وقال أبُو عبيد : كل سابق في خير أو شرٍّ فهو عند العرب قدم، يقال لفُلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق وقدم سوءٍ، وهو يؤنثُ.
وقد يذكر، فيقال : قدم حسن، وقدم صالحة.
و " لَهُمْ " خبر مقدَّم، و " قَدَمَ " اسمها، و " عِندَ ربِّهِمْ " صفة لـ " قَدَمَ "، ومنْ جوَّز أن يتقدَّم معمُولُ خبر " أنَّ " على اسمها إذا كان حرف جرٍّ ؛ كقوله :[الطويل] ٢٨٧٠ - فَلاَ تَلْحَنِي فيهَا فإنَّ بحُبِّهَا
أخاكَ مُصَابُ القَلْبُ جَمٌّ بلابِلُهْ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٥٣
٢٥٦
قال : فـ " بِحُبِّهَا " متعلقٌ بـ " مُصَاب "، وقد تقدَّم على الاسم، فكذلك " لَهُمْ " يجوز أن يكون متعلقاً بـ " عِنْدَ ربِّهِمْ " لمَا تضمَّن من الاستقرار، ويكونُ " عندَ ربِّهِمْ " هو الخبر.
قوله :﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾ لمَّا جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشَّرهُم قالوا مُتعجِّبين :" إنَّ هذا لسَاحِرٌ مُبِينٌ "، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر " لسِحْرٌ " والباقون " لَسَاحر "، فـ " هَذَا " يجوزُ أن يكون إشارةً للقرآن، وأن يكون إشارةً للرسُول على القراءة الأولى، ولكن لا بد من تأويل على قولنا : هو إشارة للرسول، أي : ذو سحر أو جعلوه إيَّاه مبالغةً، وعلى القراءة الثانية فالإشارةُ للرَّسول - عليه الصلاة والسلام - فقط.
واعلم أنَّ إقدامهم على وصف القرآن بأنَّه سحرٌ، يحتمل أنَّهم ذكروه في معرض الذَّمِّ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا قال بعضُ المُفَسِّرين : أرَادُوا به أنَّه كلام مزخرف حسن الظَّاهر، لكنه باطِل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال آخرون : أرادُوا به أنَّه لكمال فصاحته، وتعذر مثله، جارٍ مجرى السِّحْر.
وهذا كلام فَاسِد، فلهذا لم يذكر جوابه، وبيان فساده : أنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان منهم، ونشأ بينهم، وما غَابَ عنهم، ولم يُخالط أحداً سواهم، ولم تكن مكَّة بلدة العُلماء، حتى يقال : إنَّه تعلَّم السحر منهم، أو تعلم العلوم الكثيرة منهم، فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن.
وإذا كان الأمر كذلك، كان حمل القرآن على السِّحْر كلاماً في غايةِ الفسادِ، فلهذا السَّبب ترك جوابه.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٥٣


الصفحة التالية
Icon