وقيل : المراد من العرش : الملك، يقال : فلان على عرشه أي : ملكه.
وقال أبُو مسلم الأصفهاني.
" المراد بالعَرْش : أنَّه تعالى لمَّا خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإنَّ كلَّ بناء يسمَّى عَرْشاً، وبانيه يسمَّى عارشاً، قال تعالى ﴿وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل : ٦٨] أي : يبنون، وقال :﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة : ٢٥٩]، والمراد : أنَّ القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقفها، وقال :﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ﴾ [هود : ٧] أي : بناؤه على الماءِ، وإنَّما ذكر الله تعالى ذلك، لأنه أعجب في القدرة، لأنَّ الباني يتباعد عن الماء إلى الأرض الصلبة، لئلاَّ ينهَدِم بناؤُه، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء، ليعرف العُقلاء كمال قُدْرتِهِ، فالمُرَاد بالاستواء على العرش : هو الاستعلاء عليه بالقَهْر، لقوله ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [الزخرف : ١٢، ١٣]، فوجب حَمْلُ اللفظ على ذلك، ولا يجوزُ حمله على العرش الذي في السَّماء، لأنَّ الاستدلال على وجود الصَّانع، يجب أن يكون بشيء معلُوم ومشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأمَّا أجرام السموات والأرض فهي مشاهدة مَحْسُوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصَّانع صواباً حسناً ".
وبهذا الوجه تصير هذه الآية موافقةٌ لقوله :﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا﴾ [النازعات : ٢٧] الآية.
قوله :﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لـ " إنَّ ".
الثاني : أنَّه حالٌ.
الثالث : أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب.
ومعنى " يدبِّر الأمر " : يقضيه وحده على حسب مقتضى الحكمة، أي : يُدبِّر أحْوَال الخَلْقِ، وأحوال ملكوت السموات والأرض.
قوله ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ أي : يدبر الأشياء، لا بشفاعة شفيعٍ، ولا تدبير مدبر، فمعناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا من بعد إذنِهِ.
فإن قيل : كيف يليق ذكر الشَّفيع مع ذكر مَبْدَأ الخَلْقِ، وإنَّما يليق ذكره بأحْوال القيامة ؟ فالجواب : قال الزَّجَّاج : إنَّ الكفَّار الذين كانوا مخاطبينَ بهذه الآية كانوا يقولون : إنَّ الأصنام شفعاؤنا عند الله.
وهذا ردٌّ على النضر بن الحارث، كان يقول : إذا كان يوم القيامة تشفعني اللاَّت والعُزَّى.
وقال أبو مسلم :" الشَّفيعُ هاهنا هو الثاني، مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقال : الزوْج والفرد ".
فمعنى الآية : خلق الله السموات والأرض وحدهُ لا شريكَ يعينه، ثم خلق الملائكة والجنَّ والبشر، وهو المراد من قوله ﴿إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ أي : لم يحدُث أحدٌ ولم يدخل في الوجود، إلاَّ من بعد أن قال له : كُنْ حتَّى كان.
ثم قال
٢٦٠
﴿ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ مُبَيِّناً بذلك أنَّ العبادة لا تصلح إلا له، وأنه هو المستحقُّ لجميع العبادات، لأنه هو المنعمُ بجميع النِّعم التي ذكرها.
ثم قال :﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ دالاًّ بذلك على وُجُوب التَّفكُّر في تلك الدَّلائل القاهرة الباهرة.
قوله تعالى :﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ الآية.
لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله " إليه مرجعكم " الرجع بمعنى الرجوع و " جميعها " نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت.
وقوله :" وعْدَ اللهِ " منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ ؛ لأنَّ معنى " إلَيْهِ مرْجِعكُمْ " : وعدكم بذلك.
وقوله :" حَقّاً " مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبه مضمر، أي : أحَق ذلك حقّاً.
وقيل : انتصب " حَقّاً " بـ " وَعْدَ " على تقدير " في "، أي : وَعْدَ الله في حق، يعني على التَّشْبيه بالظرف.
وقال الأخفش الصغير : التقدير : وقت حق ؛ وأنشد :[الطويل] ٢٨٧١ - أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً
وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٥٧
إنَّهُ يَبْدَؤا " الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف، وقرأ عبد الله، وابن القعقاع، والأعمش، وسهيل بن شعيب بفتحها، وفيها تأويلاتٌ : أحدها : أن تكون فاعلاً بما نصب " حَقّاً " أي : حقَّ بدءُ الخَلْقِ، ثُمَّ إعادته ؛ كقوله :[الطويل] ٢٨٧٢ - أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً
.........................
البيت.
وهو مذهبُ الفرَّاء، فإنَّه قال " والتقدير : يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق ".
والثاني : أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب " وَعْدَ اللهِ "، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى : إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه.
٢٦١


الصفحة التالية
Icon