والضمير في " قدَّرهُ " يعود على القمر وحده، لأنَّه هو عُمدةُ العرب في تواريحهم.
وقال ابنُ عطيَّة :" ويحتمل أن يريدهما معاً بحسبِ أنهم يتصرَّفان في معرفة عدد السِّنين والحساب لكنَّه اجتزىء بذكر أحدهما، كقوله تعالى ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة : ٦٢] ؛ وكما قال الشاعر :[الطويل] ٢٨٧٧ - رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنْهث ووَالدِي
بَرِيئاً ومنْ أجْلِ الطَّوِيِّ رمَانِي
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٦٥
قوله :" لِتَعْلَمُواْ " : متعلِّق بـ " قدَّرَهُ "، وسُئل أبو عمرو عن الحساب : أتَنْصبُه أم تَجُرُّه ؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب ؟ يعني أنه سئل : هل تعطفه على " عَدَدَ " فتنصبه أم على " السِّنين " فتجرَّه ؟ فكأنَّه قال : لا يمكن جرُّه، إذ يقتضي ذلك أن يعلم عدد الحسابِ ولا يقدر أحدٌ أن يعلم عدده.
فصل معنى الآية :﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً﴾ بالنهار، ﴿وَالْقَمَرَ نُوراً﴾ بالليل.
وقيل : جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نُورٍ، ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾ أي : قدَّر له، يعنى : هَيَّأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصُر دونها، ولم يقل قدرهما.
قيل تقدير المنازل منصرفٌ اليهما، واكتفى بذكر أحدهما لما قدَّمنا.
وقيل : ينصرف إلى القمر خاصة، لأن بالقمر خاصة يعرف انقضاء الشُّهور والسِّنين، لا بالشمس.
ومنازل القمر هي : المنازل المشهورة، وهي الثمانية والعشرون منزلاً، وهذه المنازل مقسومة على البُروجِ الاثني عشر، لكل برج منزلتان واحدة إن كان الشهر تسعاً وعشرين، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل، ويكون مقام الشهر في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها.
واعلم : أنَّ الشمس سلطان النهار وأنَّ القمر سلطان الليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظمُ مصالحُ هذا العالم، وبحركة القمر تحصُل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة ضوئه ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار زمان التَّكسُّبِ والطلب، والليل زمان للرَّاحة، وهذا يدلُّ على كثرة رحمة الله - تعالى - للخلق وعظم عنايته لهم.
قال حكماء الإسلام : هذا يدلُّ على أنه - تعالى - أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواصَّ معينة، وقوى مخصوصة باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السُّفلي، إذ لَوْ لَمْ يكُنْ لها آثارٌ وفوائد في هذا العالم، لكان خلقها عبثاً وباطلاً بغير فائدة، وهذه النُّصوص تُنافي ذلك.
قوله :﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ " ذلك " إشارةٌ إلى الخلق، والتقدير : ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحقِّ، فيكون حالاً : إمَّا من الفاعل وإمَّا من المفعول.
وقيل :
٢٦٧
الباء بمعنى اللاَّم أي : للحقِّ، ولا حاجة إليه، والمعنى : لم يخلقه باطلاً، بل إظهاراً لصنعته، ودلالة على قدرته.
قوله :" يُفَصِّلُ " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب " يُفصِّل " بياء الغيبة جرياً على اسم الله - تعالى -، والباقون : بنون العظمة، التفاتاً من الغيبة إلى التَّكلُّم للتَّعظيم.
ومعنى التَّفصيل : هو ذكر هذه الدلائل الباهرة، واحدة عقب الأخرى مع الشَّرح والبيان، ثم قال " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " قيل : المراد منه : العقل الذي يعمُّ الكل.
وقيل : المراد منه تفكر وعلم فوائد مخلوقاته، وآثار إحسانه، لأنَّ العلماء هم المنتفعون بهذه الدلائل، كقوله ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾ [النازعات : ٤٥] مع أنه - عليه الصلاة والسلام - كان منذراً للكُلِّ.
قوله تعالى :﴿نَّ فِي اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ الآية.
اعلم أنَّه تعالى استدلَّ على التوحيد والإلهية.
أولاً : بتخليق السموات والأرض.
وثانياً : بأحوال الشمس والقمر.
وثالثاً : في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة عند قوله :﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [البقرة : ١٦٤].
واعلم أنَّ الحوادث الحادثة في هذا العالم أربعة أقسام : أحدها : الأحوالُ الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرَّعد والبَرْق والسَّحاب والأمطار والثُّلُوج، ويدخل فيها أحوال البحار، وأحوال المَدِّ والجزْرِ، وأحوال الصَّواعق والزَّلازل والخَسْفِ.
وثانيها : أحوال المعادن وهي عجيبةٌ كثيرةٌ.
وثالثها : اختلاف أحوال النَّبات.
ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات، وكلُّها داخلةٌ في قوله :﴿وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.
ثم قال :﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ خصَّها بالمتَّقين ؛ لأنَّهم يحذرون العاقبة.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٦٥
قوله تعالى :﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ الآية.
لمَّا ذكر الدَّلائل القاهرة على إثبات الإلهيَّة، وعلى صحَّة القول بالمعاد، والحَشْرِ،
٢٦٨