أي : تمنيهم لما يتمنَّونهُ، ليس إلاَّ في تسبيح الله، وتقديسه، وتنزيهه ".
قوله :" سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ " قال بعض المفسِّرين : إنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر علامة على طلب المشتهيات فيؤتَوْنَ بذلك المشتهى فإذا نالوا من شهرتهم، قالوا :﴿الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وضعف ابن الخطيبِ هذا من وجوهٍ : أحدها : أنَّ حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر العالي المُقدَّس علامة على طلب المأكول والمنكوح، وهذا في غاية الخساسة.
وثانيها : أنَّه - تعالى - قال في صفة أهل الجنة ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ [النحل : ٥٧]، فإذا اشتهوا أكل ذلك الطَّيْر، فلا حاجة بهم إلى الطَّلب، فسقط هذا الكلام.
وثالثها : أنَّ هذا صرف للكلام عن ظاهره الشريف العالي، إلى محل خسيس لا إشعار للفظ به.
وإنما المرادُ : أنَّ اشتغالَ أهل الجنَّة بتقديس الله - سبحانه -، وتحميده، والثناء عليه ؛ لأنَّ سعادتهم، وابتهاجهم، وسرورهم بهذا الذِّكر.
قال القاضي : إنَّه - تعالى - لمَّا وعد المتَّقين بالثَّواب العظيم، في قوله أوَّل السورة :﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾ [يونس : ٤]، فإذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة، ووجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن الله - تعالى - كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا :" سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ " أي : سبحانك من الخلف في الوعد، والكذب في القول.
قوله :" وَتَحِيَّتُهُمْ " مبتدأ، و " سَلاَمٌ " خبره، وهو كالذي قبله، والمصدر هنا يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، أي : تحيَّتهم التي يُحيُّون بها بعضهم سلامٌ.
ويحتمل أن يكون مضافاً لمفعوله، أي : تحيَّتهُم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلامٌ ؛ ويدلُّ له قوله :﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد : ٢٣، ٢٤]، و " فيهَا " في الموضعين متعلقٌ بالمصدر قبله.
وقيل : يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وليس بذاك، وقال بعضهم : يُحَيِّي بعضهم بعضاً، ويكون كقوله - تعالى - :﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء : ٧٨]، حيث أضافهُ لـ " داود وسليمان "، وهما الحاكما، وإلى المحكوم عليه، وهذا مبنيٌّ على مسألة أخرى، وهي أنَّه : هل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أم لا ؟.
فإن قلنا : نعم، جاز ذلك، لأنَّ إضافة المصدر لفاعله حقيقةٌ، ولمفعوله مجاز، ومنْ منعَ ذلك، أجاب : بأنَّ أقلَّ الجمع اثنان، فلذلك قال :" لِحُكْمِهِمْ ".
قوله :" وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ " مبتدأ، و " أنْ " : هي المخففة من الثَّقيلة، واسمها ضمير الأمر والشَّأن حذف، والجملةُ الاسمية بعدها في محلِّ الرفع خبراً لها ؛ كقول الشَّاعر :[البسيط]
٢٧٢
٢٨٧٩ - فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ علمُوا
أنْ هالكٌ كُلٌّ منْ يَحْفَى وينْتَعِلُ
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٧٠
و " أن " واسمها وخبرها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ الأول، وزعم الجرجانيُّ : أن " أنْ " هنا زائدةٌ، والتقدير : وآخرُ دعواهم الحمدُ الله، وهي دعوى لا دليل عليها، مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويِّين، وزعم المبرِّد أيضاً : أنَّ " أنْ " المخففة يجُوز إعمالها مخففة، كهي مشدَّدةً، وقد تقدَّم ذلك.
وتخفيفُ " أنْ "، ورفع " الحَمْدُ " هي قراءةُ العامة، وقرأ عكرمة، وأبو مجلز، وأبو حيوة، وقتادة، ومجاهد، وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة، وابن محيصن ويعقوب بتشديدها، ونصب " الحَمْد " على أنَّهُ اسمها ؛ وهذه تُؤيِّدُ أنَّها المخففةُ في قراءة العامَّة، وتردُّ على الجُرجاني، ومعنى الآية : أنَّ أهل الجنَّة يفتتحُون كلامهم بالتَّسبيحِ، ويختمُونَهُ بالتَّحْميدِ.
جزء : ١٠ رقم الصفحة : ٢٧٠
قوله تعالى :﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ...
الآية.
هذا الامتناعُ نفيٌ في المعنى، تقديره : لا يُعَجِّلُ الله لهم الشَّر، قال الزمخشري :" فإن قلت : كيف اتَّصل به قوله :﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾، وما معناها ؟ قلت : قوله " وَلَوْ يُعَجِّلْ " متضمِّن معنى نفي التَّعجيلِ، كأنَّه قيل : ولا نُعَجِّل لهم بالشَّرِّ، ولا نقضي إليهم أجلهم ".
قوله " اسْتِعْجَالَهُمْ " فيه أوجهٌ : أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر التَّشبيهيِّ، تقديره : استعجالاً مثل استعجالهم، ثُمَّ حذف الموصوف، وهو " اسْتِعْجَال "، وأقام صفته مقامه، وهي " مِثل "، فبقي : ولو يعجِّل الله مثل استعجالهم، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، قال مكِّي :" وهذا مذهبُ سيبويه "، وقد تقدَّم مراراً أنَّ مذهب سيبويه في هذا، أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المُقدَّرِ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْربين غيره، ففي نسبةِ ما ذكرناه أولاً لسيبويه نظرٌ.
٢٧٣


الصفحة التالية
Icon